قيم تحتضن الفساد
القاضي
رحيم حسن العكيلي
تترك الاعراف والقيم الاجتماعية اثر بالغ الاهمية في
انتشار سلوك او ظاهرة ما في أي مجتمع انساني ، وتساهم تلك الاعراف والقيم مساهمة
مؤثرة في منع انتشار سلوكيات او ظواهر معينة ، وذلك امر جيد فيما اذا كانت
القاعدة المذكورة تحث على السلوكيات
والظواهر القويمة ، وتمنع من انتشار السلوكيات والظواهر السيئة ، وهذا هو ما يفترض
ان ينتج عادة من ذلك حينما يحتقر او يمتهن
المجتمع مرتكبي الافعال السيئة والمروجين
للظواهر السلبية ، وحينما يقدر – بالمقابل - اصحاب السلوكيات القويمة .
ولكن الخطورة ان تنقلب نتائج القاعدة فتكون القيم و
الاعراف الاجتماعية مشجعة على السلوكيات والظواهر السيئة ومانعة من انتشار السلوكيات
والظواهر الجيدة ، وانما يقع ذلك حينما يقدر المجتمع اصحاب السلوكيات السلبية
ويمتهن اصحاب السلوكيات القويمة ، وهذا في الحقيقة هو احد اهم اسباب انتشار بعض
اسوء مظاهر الفساد في العراق كالرشوة واختلاس المال العام وخرق القانون وعدم
احترامه .
اذ ان بعض القيم
المجتمعية العراقية تحتضن ظاهرة الرشوة رغم ان كل العراقيين يشتكون منها ، فالراشي
- عندنا - في قمة الكرم ( حاتم الطائي ) و
( خوارده ) وهو محل تقدير كبير في دوائرنا الرسمية ، وقد لا يأخذون تحية للقاضي
حين دخوله الى مركز الشرطة مثلا ، ولكن
تؤخذ تحية للمحامي الذي يبالغ في اكرام افراد الشرطة في ذلك المركز ، واما من
يمتنع عن دفع الرشوة فانه ( يابس ) و( بخيل ) ، و( اثقل ما يكون ) من مراجعي
الدوائر الرسمية .
اما المرتشي فانه ( شاطر ) ، لانه يؤمن قوت عياله ، واذا
بنى بيتا واشترى سيارة فانه ( سبع كون نفسه ) ، وهو انما كان يتقاضى هدايا وعطايا
لا اشكال فيها ، اما من يمتنع من الموظفين من اخذ الرشوة فانه ( معقد ، مسكين ، فقير، خطيه ) يتأسى زملائه على غباءه وتعقيده وابتعاده عن
السير الاعتيادي للامور والسلوكيات .
اما السرقة فان المثل الشعبي القديم يقول ( المايحوف مو
زلمة ) وكانوا يطلقون على اللص لقب ( العجيد ) و ( اخو اخيته ) فأذا سرق او اختلس
الاموال العامة فانه ( شاطر كون نفسه ) وقد سرق اموالا مجهولة المالك ، فلا بأس
عليه .
اما اصحاب النفوذ والعلاقات فانهم ملجئنا في انجاز
المعاملات وتعيينا في الدوائر ، بل اننا نفتخر بوجود من يؤثر من معارفنا واقاربنا
، وهؤلاء محل اعتبار كبير ليس لشئ الا لانهم قادرون على التأثير والتوسط والضغط ،
ولا يتوانى احدنا في استخدام كل انواع التوسط والتأثير والضغط باستخدام المعارف
واهل التأثير والنفوذ لامرار ما نريده ، وليذهب غيرنا الى الحجيم ، فأذا نجحت
وساطتي فتعينت في الوظيفة الشاغرة فلا يهمني انني اعتديت على حق غيري في تكافؤ
الفرص لتولي الوظيفة العامة ، ولكني اتذمر كثيرا من ( الوساطات و( استخدام النفوذ )
حينما لا اجد من يتوسط لي ويتمكن غيري من اخذ الوظيفة الشاغرة دوني .
يقول البعض ماذا نفعل فبلا وساطة وتأثير لا تسير الامور
كما نريد ، والحقيقية ان ذلك لا يعني اننا
نريد المنافسة الشريفة في تولي المنصب او الوظيفة الشاغرة ، بل ان ما نريده هو ان
نأخذ الوظيفة او نمرر معاملتنا على حساب الاخر ولو بغير حق ، او بالاعتداء على
حقوق الاخرين وسلبهم حقهم في التنافس معنا او انجاز معاملاتهم في دورها الطبيعي .
في حين اننا - لو كنا نؤمن بالنزاهة وتكافؤ الفرص – لما توسطنا لطلب الوظيفة ، بل
لتوسطنا وطلبنا التأثير لالزام اصحاب القرار على اقرار التنافس الشريف بين
المتقدمين ، لكننا لا نؤمن بذلك فيدفعنا ما فينا الى استخدام كل الوسائل المتوفرة
لاخذ الوظيفة او المنصب ، بل يزعجنا ان تفشل وساطتنا بسبب الاخذ باليات التنافس
الشريف.
ان كل ذلك غيض من فيض القيم المجتمعية العراقية التي
تحتضن الفساد وتشجعه ، وكم نحن بحاجة الى تشخيصها وتركيز الاضواء عليها وفضح السوء
وانعدام الغيرة والشرف فيها ، وصولا الى نبذ واحتقار من يمارسها لمنع تداولها ،
لما لها من تأثير في منع تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة .
اننا بحاجة
– فعلا - الى خلق مجتمع لا يتسامح مع الفساد ، يحتقر المتورطين به وينبذهم بنفس
الطريقة التي يحتقر وينبذ بها المتعاملين بالدعارة والمتاجرين بالشرف .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق