فــوضــى الـــرواتــب
في القطاع العام العراقي
القاضي
رحيم حسن
العكيلي
ظل العراق منذ تاسيس الدولة العراقية حتى عام 2003 يأخذ بالمعيار الشخصي في
تحديد الرواتب والمخصصات التي يستحقها موظفو القطاع العام ، وهذا المعيار يقوم على
تحديد راتب الموظف بالاستناد او بالنظر الى ظروفه ومواصفاته هو ، وليس بالنظر الى
ماهية العمل الذي يحسنه او يقوم او يكلف به ، فيحدد الراتب في ضوء ظروف و معايير
لها ارتباط مباشر به ، مثل كونه متزوج او اعزب وهل لديه اطفال وكم عددهم ، وما هي
شهادته الدراسية اعدادية ام دبلوم ام بكلورسوس او دكتوراه...الخ ، اي ان الرتب يتحدد في ضوء معايير لا علاقة لها
بالعمل الذي يؤديه الموظف العام ، فيستحق المتزوج اكثر من الاعزب ، ويمنح صاحب
الاطفال اكثر ممن ليس لديه اطفال ، ومن يحمل شهادة اعلى يمنح راتب اكبر ممن يحمل
شهادة ادنى ، رغم انهما قد يقومان بعمل متشابه ، بل قد يقوم حامل شهادة الادنى
بعمل اكثر او اكبر او ادق او اخطر من العمل الذي يقوم به حامل شهادة الاعلى .
لقد هجرت معظم قوانين العالم الاخذ بالمعيار الشخصي في تحديد رواتب موظفي
الدولة ، لانه يقوم على اسس غير عادلة ، منقطعة الصلة بالعمل ، لذا فأنه لا يشجع
المثابرة والابداع ولا يحث الموظف على بذل جهود اكبر ، ولا يحثه على تطوير مهاراته
وقدراته الشخصية ، لان راتبه منقطع الصلة بكل ذلك ، فهو يستحق الراتب ليس لانه يقوم بعمل كبير او عمل دقيق او
مجهد ، او لانه اكفأ فعليا من غيره ، بل هو يستحقه لانه متزوج ولانه صاحب اطفال
... الخ ، ، فعدم عدالة هذا المعيار ظاهرة بجلاء ، فما مبرر ان يمنح المتزوج اكثر
من الاعزب ، ولو قام الاعزب بعمل اهم واكبر اواخطر اوادق من المتزوج ، او كان
الاعزب اكفأ من المتزوج فعليا .
وجزء مهم من عدم عدالة هذا المعيار
(المعيار الشخصي ) تنبع من انه يعتمد على ( الكفاءة المفترضة ) للموظف لا على (
الكفاءة الفعلية ) له ، اذ يعتمد معايير الشهادة التي يحملها الموظف وعلى مقدار
سنوات خدمته ، كظروف اساسية لتحديد كفائته وخبرته ، في حين ان تلك الاسس لا تصلح
مطلقا للقطع بتوافر الكفاءة والخبرة الفعلية لدى الموظف ، ولو كانت قد توحي بتوفر
( كفاءة مفترضة ) ، فقد تجد موظف شاب
خدمته محدودة يحمل شهادة البكلوريوس يتمتع بكفاءة وخبرة وقدرة على الابداع والتطور
اكثر من موظف يحمل شهادة الدكتوراه وله خدمة طويلة .
لذلك اتجهت معظم قوانين العالم الى الاخذ بالمعيار الموضوعي في تحديد
الرواتب ، الذي يقوم على تحديد رواتب الموظفين بالاستناد الى طبيعة واهمية الاعمال
التي يقومون بها وعلى ( كفائتهم الفعلية ) في اداء ذلك العمل وليس على اساس
الكفاءة المفترضة التي تستند الى الشهادة ومدة سنوات الخدمة ، ولا تكون الظروف
الشخصية للموظفين اية اهمية تذكر في تحديد رواتبهم والمخصصات التي يستحقونها ، فلا
اهمية لكونه متزوج ام اعزب ولا اهمية لكونه صاحب اطفال ام لا .... الخ .
ان المعيار الموضوعي يحقق العدالة في تحديد رواتب الموظفين ، ويدفعهم الى
تطوير قدراتهم وامكاناتهم وخبراتهم ليحصلوا على ترقيات تمنحهم رواتب اكبر .
وقد اخذت سلطة الائتلاف المؤقتة المنحلة بالامر ( 30 ) لسنة ( 2004 ) لاول
مرة بالمعيار الموضوعي في تحديد رواتب موظفي الدولة في العراق ، والغت بموجبه جميع
التشريعات الفوضوية غير العادلة التي كانت تحدد رواتب موظفي الدولة على اساس
المعيار الشخصي قبل عام 2003 ، وحقق ذلك الامر المهم انتقاله تشريعية بالغة
الاهمية في النظام القانوني والوظيفي العراقي ، الا ان القطاع العام عجز عن فهمه ،
فتعثر تطبيقه ، ثم الغي ، واعيد العمل بالمعيار الشخصي في تحديد الرواتب بموجب
قانون رواتب موظفي الدولة رقم 22 لسنة 2008 .
لقد حقق امر سلطة الائتلاف رقم 30 لسنة 2004 مميزات اربعة :-
1- انه حقق العدالة بين جميع موظفي الدولة بلا
استثناء ، فهم جميعا خاضعون لنفس القواعد في تحديد رواتبهم . بخلاف فوضى الرواتب
قبل عام 2003 .
2- وضع اسس واضحة وبسيطة وموحدة لتحديد الرواتب
والغى النصوص التشريعية الكثيرة المعقدة التي كانت تعتمد في تحديد الرواتب في
مفاصل الدولة ، فكان للكثير من الوزرارت والجهات قواعد خاصة بها ، تختلف عن غيرها .
3- قضى على التفاوت الكبير بين رواتب موظفي الدولة
، فالجدول الملحق به شمل رواتب الوزراء وانتهى الى اصغر موظف في الدولة ، ولم تكن
الفروقات بين الموظفين الكبار والصغار كبيرة جدا كما هو الحال الان .
4- اخذ بالمعيار الموضوعي في تحديد الرواتب الا ان
النظام الاداري العراقي عجز عن فهمه وعجز عن تطبيقه .
الا ان النظام القانوني والوظيفي العراقي كان غير قادر على هضم واستيعاب
تلك المميزات ، فعمل على هدمها خلال تطبيق القانون ، فهدمت المساواة وصنعت فوارق كبيرة
بين صغار وكبار الموظفين حينما اقرت مخصصات جديدة لكبار موظفي الدولة نهاية عام
2004 اسميت بالمخصصات الاستثنائية ، واعيد العمل فعليا بمعايير ( الكفاءة المفترضة
) بدل معايير (الكفاءة الفعلية ) فكان ذلك اول بوادر النكوص الى المعيار الشخصي في
تحديد الرواتب والاجور ، ثم انتهى الامر الى الغاء الامر ( 30 ) لسنة 2004 بقانون
رواتب موظفي الدولة رقم 22 لسنة 2008 الذي اعاد العمل بالمعيار الشخصي ، وترك
المجال واسعا لبناء فروقات مبالغ بها بين رواتب الموظفين ، فتجد الموظف في وزارة
العدل بدرجة ما يتقاضي ( 400 ) الف دينار في حين يتقاضى زميله بنفس درجته اكثر من
ثلاثة ملايين دينار ، في رئاسة الجمهورية او مجلس النواب او رئاسة مجلس الوزراء .
وبنى هوة كبيرة جدا بين رواتب كبار الموظفين وصغارهم في عموم مفاصل الدولة .
ان اهم متطلبات الاصلاح في الوظيفة العامة والخدمة المدنية العراقي – اليوم
- هو قانون لتحديد الرواتب والاجور يؤمن :- 1- المساواة 2- والعدالة 3- والوضوح في تحديد الرواتب 4- على اساس المعيار الموضوعي لجميع مفاصل
الدولة ، بدون استثناء لموظفي الرئاسات او كبار الموظفين ، فيخضع الجميع لنفس
القانون ولنفس الاسس من رئيس الجمهورية وحتى ادنى درجة وظيفية في الدولة .
القاضي
رحيم حسن العكيلي
رئيس هيئة النزاهة
نيسان / 2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق