الحكمة
من ثلاثية الاستقلال القضائي
( استقلال
القضاء ) هو المصطلح المرجعي الذي يجمع بين مفهومين احدهما مرتبط بالاخر هما (
استقلال السلطة القضائية ) و ( استقلال القاضي ) ، لكن ما هو الفرق بين هذين
المفهومين ؟ وهل هما شئ واحد له نفس المعنى ؟ ويصب في الاطار المرجعي ذاته ؟ ام
انهما مفهومان متباينان ، لكل منها معنى مختلف ؟ وما هي الصلة بينهما ؟ وماهي
الغاية خلف كل منهما ؟ وهل هناك نوع ثالث من الاستقلال يدخل معهما تحت المصطلح
المرجعي ( استقلال القضاء ) ؟
اما ( استقلال السلطة القضائية ) فأنه يعني اناطة وظيفة
الفصل في المنازعات الى سلطة مستقلة هي السلطة الثالثة في الدولة الى جانب
السلطتين التشريعية والتنفيذية ، على ان تكون العلاقة بين السلطات الثلاثة مبنية
على اساس الفصل بين السلطات .
اما استقلال القاضي فيعني هو ان كل قاضي ( بصفة الشخصية
كفرد ) مستقل تماما لا سلطان لاحد عليه ، ولا يخضع لتوجيه او ارداة احد مهما كان
حينما ينظر في المنازعات التي تعرض عليه ، فهو حين ممارسته سلطة الحكم لا يجوز
التدخل في عمله ، لانه مستقل تماما حتى عن رؤساءه داخل السلطة القضائية ، فلا يحق
لهم توجيهه او التدخل في قناعاته او اصدار الاوامر اليه بان يسير في الدعوى بطريق
ما ، فذلك تدخل في شؤون العدالة لا يملكه احد .
ويفترض بالقوانين التي تحكم السلطة القضائية ان توفر
للقاضي هذا الاستقلال التام عن طريق اليات وضمانات قاطعة في حمايته ضد تحكم او
تدخل او تأثير كل الجهات ، خصوصا تدخل رؤساءه داخل السلطة القضائية نفسها ، لانهم
الاكثر قدرة على التدخل في شؤونه وشوؤن العدالة اذا كانت لهم سلطات رئاسية او
ادارية على القاضي .
اذن هناك استقلالان قضائيان اصليان الاول ( استقلال
السلطة القضائية ) والثاني ( استقلال
القضاة ).
وقد اخذ الدستور العراقي النافذ لسنة 2005 بنوعي الاستقلال المذكورين ، فنص في المادة ( 87 ) منه على ( استقلال
السلطة القضائية ) بقولها ( السلطة القضائية مستقلة تتولاها المحاكم ... ) ونص في
المادة ( 88 ) منه على ( استقلال القاضي ) بقولها ( القضاة مستقلون ، لا سلطان
عليهم في قضائهم لغير القانون ، ولا يجوز لاية سلطة التدخل في شؤون القضاء او في
شؤون العدالة . ) .
لكن ما هو السبب وراء هذين النوعين من الاستقلال ؟
ان الغاية النهائية التي قامت عليها فكرة انشاء القضاء
والمحاكم هو فصل المنازعات بما يحقق العدل والانصاف ، الا ان الواقع العملي اثبت
بان العدالة - التي اسند تحقيقها الى قضاة من البشر - تتعرض الى مخاطر الضغط
والتأثير والاكراه والاغواء التي يتعرض لها القضاة ، فقد يضغط الخصوم بطرق غير
قانونية على القاضي بوسائل كثيرة لحرف ارادته والتأثير عليه لاصدار الحكم لمصلحتهم
على حساب الحق والعدل ، وقد يتأثر القاضي برؤساءه واصحاب القرار في منصبه وفي
تحديد راتبه وفي تقاعده وترقيته ونقله وانتدابه ، سواء أكان هؤلاء من الرؤساء او
اصحاب القرار التنفيذيين او التشريعيين او
حتى القضاة انفسهم ، فقد يضطر القاضي الى محاباتهم او مجاملتهم على حساب الحق
والعدل ، فتكون العدالة الحقيقة – في النهاية – صعبة المنال الا اذا اسندنا سلطة
الحكم الى ( قضاة مستقلون ) يحكمون في المنازعات بناء على احكام القانون وادلة
الخصوم ووقائع الدعوى وضمائرهم فقط ، دون ان يؤثر في ارادتهم شئ ، لذلك اصبح
ضروريا ضمان كل الاليات التي تحقق استقلال كامل ( للقاضي ) .
ثم وجد جانب من
الفقه القانوني وبعض الانظمة القانونية لاحقا بان ضمان استقلال القضاة - في بعض
جوانبه - يحتاج الى افرادهم بسلطة مستقلة ([1])،
تضمن لهم منع تدخل السلطة التشريعية او السلطة التنفيذية في القضاء وفي شؤون
العدالة .
فيكون الغرض
النهائي لـ ( مبدأ استقلال القضاء ) هو توفير ضمانات العدالة في الفصل بالمنازعات
عن طريق ( قضاة مستقلون ) ، فـ ( استقلال القاضي ) هو وسيلة لتحقيق العدالة ولم
يكن في ذاته غاية ، اما ( استقلال السلطة القضائية ) فانه وسيلة لضمان ( استقلال
القاضي ) ، اي ان ( استقلال القاضي ) هو الغاية المستهدفة من السعي لجعل القضاء (
سلطة مستقلة ) .
لذلك ، لا قيمة مطلقا لجعل ( القضاء سلطة مستقلة ) اذا
لم يؤد – ذلك - فعليا الى ضمان ( استقلال القاضي ) ، اذ لا يقصد من استقلال السلطة
القضائية سوى توفير ضمانات مهمة لتأمين استقلال اكبر للقاضي عند الانظمة القانونية
التي ترى وجوب جعل القضاء سلطة مستقلة .
بخلاف انظمة اخرى ترى ان المطلوب فقط هو ( استقلال القاضي ) كضمانة من ضمانات
تحقيق العدالة ، دون استقلال القضاء كسلطة ، لذلك فأن تلك الانظمة القانونية -
كالانظمة اللاتينية - ربطت القضاء بالسلطة التنفيذية ولم تعترف له بصفة السلطة
المستقلة ، لانها لا ترى مبررا لجعل القضاء سلطة ، الا ان كل الانظمة القانونية في
العالم تتفق – بلا خلاف مطلقا - على وجوب ( استقلال القضاة ) كاشخاص حتما .
فلم يتفق فقهاء القانون والانظمة القانونية التي تتبنى
مبدأ الفصل بين السلطات ([2])
في النظر الى موضوع افراد القضاء ( بسلطة مستقلة ) من عدمه ، ففي حين يصر المذهب
الذي تبناه النظام الامريكي - ومن تبعه من الانظمة في العالم – على ضرورة عد
القضاء سلطة مستقلة لايمانهم بضرورة ذلك لتأمين استقلال كامل للقضاة . فأن المذهب الاخر الذي يتبناه الفرنسيون ومن
تبعهم من الانظمة القانونية يذهب الى وجوب ضمان استقلال القضاة داخل السلطة
التنفيذية ، ولا موجب لافراد القضاء بسلطة مستقلة ، لان المطلوب هو ( استقلال
القاضي ) الذي لا خلاف على ضرورته لضمان العدالة ، وهذا ممكن – عندهم - دونما حاجة
الى جعل القضاء ( سلطة مستقلة ) ، وهذا ما يتبناه النظام القانوني الفرنسي ومن
تبعه من النظم القانونية من بينها كثير من الدول العربية كمصر ولبنان والعراق قبل
عام 2003 ، اذ ان القضاء عند هؤلاء هو بعض من السلطة التنفيذية ([3])
لكن ( القاضي ) مستقل استقلالا تاما عن السلطة التنفيذية وعن كل مؤسسات الدولة
الرسمية وغير الرسمية ، فالسلطات في الدولة – عندهم - سلطتان هي التشريعية والتنفيذية فقط ، ولا
موجبا عندهم لافراد القضاء بسلطة مستقلة ، لانهم يرون امكانية ضمان الاستقلال
الكامل للقضاة تحت عباءة السلطة التنفيذية دونما حاجة الى افراد القضاة بسلطة
مستقلة .
فالنظامان – اذن - يتفقان على ضرورة ضمان ( استقلال
القاضي ) الا انهما يختلفان في استقلال القضاء كسلطة ، وفي مدى ضرورة ذلك لضمان
استقلال القاضي . فهما لا يختلفان في وجوب ( استقلال القاضي ) عن سائر السلطات في
الدولة وسائر الهيئات الحكومية وغير الحكومية الرسمية وغير الرسمية ، الا ان هذا
الاستقلال ( اي استقلال القضاء ) عند انصار المذهب الاول نتيجة طبيعية لمذهبهم ،
وهو عند انصار المذهب الثاني من مقتضيات حسن سير القضاء ([4]).
اذن لا يقصد – في الحقيقة في كل الانظمة القانونية - من
وراء تبني المبدأ المرجعي ( استقلال القضاء ) الا الوصول الى نقطة يكون فيها (
القاضي ) بعيدا عن أي تأثير او ضغط حين فصله في القضية المعروضة عليه ، بحيث لا
يبقى لاحد دور في الدعوى الا له ( اي للقاضي ) والخصوم ، فلا يكون لغير ( القاضي
والخصوم في الدعوى ) أي دور او تأثير او تدخل ، فيحكم القاضي حين ذاك فيها بما
يمليه عليه ضميره والقانون وما ثبت لديه في الدعوى من وقائع ، دون أي تدخل او
تأثير او ضغط او ايحاء من أي جهة او فرد مهما علا منصبه .
فاستقلال ( القاضي ) هو هدف ثابت وحتمي لتحقيق العدالة
في المجتمع ، فرضته طبيعة العمل القضائي ذاته ، فان لم يكن ( القضاة مستقلين ) في
بلد ما ، فلا يمكن ان تكون فيه عدالة ، ولو شكلت لهم سلطة مستقلة ، لان ضمان
العدالة يتحقق ( بقاض مستقل ) وليس ( بسلطة قضائية مستقلة )، لأن استقلال القضاء
كسلطة ليس غاية في حد ذاته ، لكنه وسيلة للوصول الى ضمان ( استقلال القاضي ) ،
لذلك لا فائدة من جعل القضاء ( سلطة مستقلة )، اذا لم يؤد ذلك الى استقلال القاضي
الكامل حتى عن زملائه ورؤسائه داخل السلطة القضائية ذاتها ، لان من الضروري ان يكفل للقاضي الاستقلال
التام في الرأي والحيدة في احكامه لكي يقوم بمهمته ([5])،
ففي قيام القاضي باداء وظيفته حرا مستقلا مطمئنا على كرسيه آمنا على مصيره هي اكبر
ضمان لحماية الحقوق العامة والخاصة ([6])،
وهذا لا يكفي لتحقيقه ان يكون القضاء ( سلطة مستقلة ) عن تدخلات السلطات التنفيذية
والتشريعية ، بل يتوجب ايضا ان يتمتع القاضي باستقلال داخل السلطة القضائية نفسها
، عن زملائه وعن رؤساءه وعن مؤسسات السلطة القضائية ذاتها ، اذ كما يتصور ان يتدخل
اعضاء ومؤسسات السلطة التنفيذية او اعضاء ومؤسسات السلطة التشريعية في القضاء وفي
الدعاوى وفي شؤون العدالة ، فيتصور – من باب اولى - ان يتدخل اعضاء ومؤسسات السلطة
القضائية فيه ، بل ان تدخل هؤلاء يكون اعظم اثرا واكثر فاعلية في هدم استقلال
القاضي ، وحينما يتدخل رؤساء القاضي او زملائه او مؤسسات القضاء في عمل القاضي فلن
يكون القاضي بعيدا عن التأثيرات والتدخلات ، وتختل قاعدة وجوب انفراد القاضي
بالفصل في المنازعات التي ينظرها دون تأثير او تدخل ممن سواه بغض النظر عن كون ذلك
التأثير صادر عن السلطة التنفيذية او التشريعية او القضائية نفسها .
من هذا تظهر اهمية وضع اسس وقواعد وضوابط تمنع تأثير
الادارة داخل المؤسسة القضائية على القضاة ، وهذا ما يؤخذ به في النظامين
المذكورين انفا سواء اكان القضاء سلطة مستقلة ام مؤسسة مستقلة تابعة لوزارة العدل
، لذلك يوصف وزير العدل في مصر وفرنسا بانه ( وزير القاعات والحمامات ) اي لا حق
له في التدخل بالشؤون القضائية ويقف اختصاصه عند حدود تقديم الدعم المادي
واللوجستي لتمكين المحاكم من القيام بدورها ، وهذا هو حكم الادارة في مجلس القضاء الاعلى
، فهي المناظر لوزارة العدل في الانظمة اللاتينية .
فاستقلال القضاء كسلطة وسيلة لضمان استقلال اكبر للقاضي
كشخص ، وهذه هي العلاقة بين نوعي الاستقلال القضائي ، لذلك لا معنى مطلقا لاستقلال
القضاء كسلطة اذا لم يكن القضاة كاشخاص مستقلون داخل تلك السلطة المستقلة ، والا
فاننا نكون - بتأسيس سلطة مستقلة للقضاء دون
استقلال اكبر للقضاة - كأنما حولنا القضاة من خاضعين لتأثيرات وتدخلات ادارة
تنفيذية الى خاضعين لتأثيرات وتدخلات ادارة قضائية ، ولا فرق بين الامرين الا
بالاسم ، فكلا الادارتين ( التنفيذية والقضائية ) مكون من بشر لهم مصالحهم
واهوائهم ورغباتهم .
الا ان المفهوم المرجعي ( استقلال القضاء ) لا يقف عند
هذين النوعين من الاستقلال ، بل يتعداه الى نوع ثالث من الاستقلال هو ( استقلال
مكونات السلطة القضائية عن بعضها ) والذي يعتبر الاستقلال الاكثر اهمية من (
استقلال السلطة القضائية ) كسلطة ، خصوصا في نظر الانظمة القانونية التي لا ترى
اهمية للاعتراف بسلطة مستقلة للقضاء .
فالسلطة القضائية – وفقا للمادة ( 89 ) من الدستور العراقي النافذ - ستة
مكونات ، هي :-
1- مجلس القضاء الاعلى . 2- المحكمة الاتحادية
العليا . 3- محكمة التمييز الاتحادية . 4- جهاز الادعاء العام . 5- هيئة الاشراف
القضائي . 6- المحاكم .
ولكل واحد من تلك المكونات الستة مهامه في اطار السلطة القضائية ، الا ان
المهام القضائية التي هي جوهر عمل السلطة القضائية تقوم به بعض مكونات السلطة
القضائية فقط دون مكوناتها الاخرى ، فسلطة الحكم والفصل في النزاعات تنحصر بمكونات
ثلاثة فقط من بين المكونات الستة ، هي المحكمة الاتحادية العليا ومحكمة التمييز
الاتحادية والمحاكم الاتحادية الاخرى .
اما المكونات الثلاث الباقية فانها ذات مهام غير قضائية ، فلا تمارس مهام
او سلطات الفصل في الدعاوى والنزاعات ، بل انها تقوم بمهام اما ادارية وتنظيمية او
مهام رقابية ، فبعضها ذات مهام خدمية وادارية وتنظيمية محضة ، كمجلس القضاء الاعلى
، والبعض الاخر ذات مهام رقابية داخلية محضة هي هيئة الاشراف القضائي ، والبعض
الاخر ذات مهام رقابية قانونية داخل السلطة القضائية وخارجها هو جهاز الادعاء
العام .
اي ان مكونات السلطة القضائية ثلاثة انواع :-
النوع الاول :- ( مكونات قضائية )
:- هي المحاكم بانواعها ، بضمنها المحكمة الاتحادية العليا ومحكمة التمييز
الاتحادية ، وهذه هي التي تقوم بالمهمة القضائية ، وان غاية تشكيل السلطة القضائية
بكل مكوناتها تعود الى هذا النوع من المكونات ، لانها هي من يملك سلطة الحكم
والفصل في الخصومات والمنازعات ، الذي هو صميم عمل السلطة القضائية ، والحقيقة
التي لا نزاع فيها بان السلطة القضائية هي المحاكم بدليل قول المادة ( 87 ) من الدستور :- (
السلطة القضائية مستقلة ، وتتولاها المحاكم .... ) فالسلطة القضائية كلها المحاكم
، اما باقي مكونات السلطة القضائية فأنها في خدمة المحاكم .
النوع الثاني :- ( مكونات رقابية )
:- هي هيئة الاشراف القضائي وجهاز الادعاء العام ، يختص الاول بالرقابة الادارية
والمالية والسلوكية فقط على المكونات الاخرى للسلطة القضائية ، فتنحصر مهامه في
الرقابة على المال والادارة والسلوك فقط ، ولا رقابة له مطلقا – من الناحية
القانونية – على سلطة المحاكم القضائية ، فلا تملك هيئة الاشراف القضائي النظر في
صحة قرارات القضاة ولا محاسبتهم عنها ولو كانت خاطئة من وجهة نظرها ، لان النظر في
صحة قرارات المحاكم يكون عن طريق طرق الطعن امام المحاكم العليا المختصة بالنظر في
الطعون طبقا لاحكام القانون ، والاصل ان لا يحاسب القاضي عن اخطائه في عمله
القضائي ، بل تخضع قراراته لمراجعة طرق الطعن التي فتحها القانون فقط ، وهو المبدأ
المعروف بكون القضاء يراقب بعضه بعضا من خلال طرق الطعن المحددة في القانون ، ولا
رقابة ولا تعقيب عليه بعد ذلك من اية جهة ولو كانت قضائية .
اما جهاز الادعاء العام فله صلاحيات رقابة داخلية وخارجية ، فعليه مراقبة
المشروعية واحترام تطبيق القانون داخل السلطة القضائية وخارجها ، فنطاق رقابته
تتعدى السلطة القضائية لتشمل الدولة بعمومها .
النوع الثالث :- ( مكونات ادارية خدمية تنظيمية ):- وهذه لا تمارس سلطة الحكم ولا سلطة الرقابة ،
بل ان مهمتها تنحصر في خدمة النوع الاول( المحاكم ) وتوفير متطلباتها من اجل
القيام بواجباتها في الفصل في النزاعات وتحقيق العدالة وفرض القانون . فهي المؤسسة
المعنية بتقديم الدعم الاداري والمالي والتنظيمي والخدمي لتمكين المحاكم من القيام
بواجباتها ، كما انها معنية بتهيئة كل مستلزمات تفرغ القضاة لعملهم القضائي
وتجنيبهم الولوج في المتطلبات الادارية والخدمية لتأمين تفرغهم لشؤون الحكم
والعدالة ، بضمنها توفير احتياجاتهم وصرف مستحقاتهم وتنظيم امورهم الوظيفية .
والحقيقة ان تسمية مجلس القضاء الاعلى تنصرف – عرفيا - الى معنيين الاول هو
( مجلس ) ويقصد به المجلس المكون من عدد من المناصب القضائية الذي يتولى بصورة
جماعية النظر في اتخاذ القرارات والاجراءات التي منحها له القانون ، وهو في حقيقته
الوارث لصلاحيات وسلطات مجلس العدل المؤسس وفقا لقانون التنظيم القضائي رقم 160
لسنة 1979 الذي كان يعقد برئاسة وزير العدل قبل تأسيس مجلس القضاء الاعلى بالامر
35 لسنة 2003 .
اما المعنى الثاني فيعني الدوائر الادارية التابعة لرئيس مجلس القضاء
الاعلى والتي يفترض بانها تقوم - بشكل اساس - بتنفيذ قرارات مجلس القضاء الاعلى ،
وتنفيذ قرارات رئيسه ، التي يتخذها طبقا لصلاحياته وفقا للدستور ولقانون التنظيم
القضائي .
ولكن هل يعد رئيس مجلس القضاء الاعلى رئيسا للسلطة القضائية ، وهل السلطة
القضائية مكون واحد بخلاف مثيلاتها ( السلطتين التشريعية والتنفيذية ) التي ليس
لها رئيس ، ولكل منهما مكونين مستقل واحد عن الاخر تمام الاستقلال ؟ وما هي طبيعة العلاقة بين مكونات السلطة
القضائية ؟
لم يرد نص في الدستور على جعل احد مكونات السلطة القضائية الستة اعلى من المكون الاخر ، و لم يرد نص – ايضا -
على ربط احد المكونات بالاخر ، ولم ينص الدستور على جعل احد المكونات تابعا او
خاضعا لاخر اداريا او رئاسيا ، كما لم يرد نص على جعل احد رؤساء تلك المكونات
رئيسا للسلطة القضائية ، ولكنه اعطى لمجلس القضاء الاعلى بمعناه الاول – كمجلس
مكون من عدد من المناصب القضائية – مهمتين عامتين :-
الاولى :- ادارة شؤون الهيئات القضائية . وليس واضحا ما معنى ( الهيئات
القضائية ) فهل يشمل ذلك كل مكونات السلطة القضائية بضمنها هيئة الاشراف القضائي
وجهاز الادعاء العام ، ام يقتصر على المحاكم فقط .
الثانية :- الاشراف على القضاء الاتحادي .ويثار بشأن الاشراف على ( القضاء
الاتحادي ) نفس الاشكال السابق ، فهل لفظ ( القضاء الاتحادي ، يشمل جهاز الادعاء
العام وهيئة الاشراف القضائي ، ام يقتصر على المحاكم .
الا ان المهمتين المذكورتين ( الادارة والاشراف )هما مهمتان اداريتان
تنظيمتان ، لا تتعدى شؤون الخدمة والادارة والتنظيم ، فلا حق للمجلس في التدخل في
العمل القضائي ، ولا توجيه القضاة للفصل في الدعاوى بطريقة ما ، ولا شأن له مطلقا
في كيفية فصل المحاكم في النزاعات التي تعرض عليها ، لان (القضاة) كاشخاص مستقلون
لا سلطان عليهم لغير القانون ، بنص المادة ( 88 ) من الدستور بقولها :- ( القضاة
مستقلون لا سلطان عليهم لغير القانون ، ولا يجوز لاية سلطة التدخل في القضاء او في
شؤون العدالة. ) .
الا ان سلطتي :- ( ادارة شؤون الهيئات القضائية والاشراف على القضاء
الاتحادي ) يعود لمجلس القضاء الاعلى – كمجلس - يشترك فيه رؤساء المكونات داخل
السلطة القضائية جميعا ولا ينفرد به بعضهم
او احدهم ، ويتوجب ان تتوفر فيه جماعية قرارته فعليا ، لتكون ضمانة للعدالة عن
طريق منعها لخرق استقلال القضاة .
وليس للمديريات الادارية التابعة لرئيس مجلس القضاء الاعلى لا سلطة ادارة
الهيئات القضائية ولا الاشراف عليها ، فهذه لا سلطة لها ولا صلاحية على المحاكم
وغيرها من مكونات السلطة القضائية ، بل لها مهمة خدمية للقضاة وللمحاكم فقط .
الا ان مجلس القضاء الاعلى - كمجلس – ولو كانت له سلطتي الادارة والاشراف
على مكونات السلطة القضائية ، الا انه لا يملك عليها غير ذلك ، فلا حق له في
التدخل باعمالها ولا ممارسة اختصاصاتها ، ولا تعديل او الغاء قراراتها ، ولا
الحلول محلها ولا ممارسة سلطة رئاسية عليها حينما تؤدي مهامها القانونية ، لذا
يتوجب ان تكون مكونات السلطة القضائية مستقلة عن مجلس القضاء الاعلى ، ومستقلة
احدها عن الاخرى استقلالا تاما ، فهي مؤسسات يحكمها القانون في تنظيمها وصلاحياتها
واختصاصاتها ومهامها واهدافها ، وليس من حق اية جهة التدخل في اعمالها ، شأنها شأن
مكونات السلطة التشريعية او مكونات السلطة التنفيذية ، ولا يصح جمعها جميعا تحت
عباءة مكون واحد ، فلا يصح ابتلاع السلطة القضائية من احد مكوناتها .
اي ان كل واحدة من مكونات السلطة القضائية يتوجب ان تكون مستقلة تماما عن
الاخرى ، تمارس مهامها وصلاحياتها في اطار واجباتها طبقا لاحكام القانون ، ولا
يقبل ان تجمع مكونات السلطة القضائية كلها
في اطار مكون واحد منها او تحت ولاية مكون واحد او في كنف مكون واحد ،
يبتلعها كلها بالكامل ، فتكون خاضع اليه ، لان طبيعة العمل القضائي تأبى ذلك،
فالمحاكم بضمنها المحكمة الاتحادية العليا او محكمة القانون الاعلى في البلاد (
محكمة التمييز الاتحادية ) لا يصح ان تتبع جهة اخرى قضائية او ادارية ، والا فقدت
استقلالها واضحت تابعة ، وهذه يخل بالحكمة من استقلال القضاء ، ويضرب الغاية من
استقلال السلطة القضائية في مقتل ، اذ ستكون المحاكم تحت التأثير المحتمل للادارة
القضائية ، ولو كانت تلك الادارة من القضاة ، فهم بشر ، ولهم اهوائهم ومصالحهم وقد
يتأثرون بضغوطات يتعرضون لها – كادارة - فيعكسونها على المحاكم والقضاة ، فلا يجوز
تسليطهم على القضاة الذين يفصلون في النزاعات باي شكل من الاشكال ، لان ذلك يعني
رفع ( تأثير اداري معين ) عن القضاة عن طريق افرادهم بسلطة مستقلة واعادة
اخضاعهم ( لتأثير اداري اخر ) داخل السلطة
القضائية ، وذلك يفرغ استقلال السلطة القضائية من معناه ، ولا يبقي اي قيمة حقيقة
لاستقلال القضاء.
والحكمة من استقلال المكونات المختلفة داخل السلطة الواحدة اشد وضوحا في
السلطة القضائية منها في غيرها من السلطات الاخرى ، من جهتين الاولى تتعلق بضرورات
استقلال القضاة والمحاكم كما بيناه انفا ، والجهة الثانية تنصرف الى ضمان نجاعة
الرقابة داخل السلطة القضائية نفسها ، فاستقلال هيئة الاشراف القضائي - وهي الرقيب
الداخلي على مكونات السلطة القضائية - خصوصا
استقلاله عن مجلس القضاء الاعلى ، ضرورة لضمان نجاعة رقابته على رئيس مجلس القضاء
الاعلى ودوائره الادارية ، وكذلك فان استقلال جهاز الادعاء العام ضرورة لضمان
قيامه برقابة حقيقية فاعلة ومؤثر على جميع مفاصل الدولة بضمنها مكونات السلطة
القضائية الاخرى .
وبعد هذا كله فأن اصناف الاستقلال القضائي الثلاث (
استقلال القاضي ) و ( استقلال السلطة القضائية ) و ( استقلال مكونات السلطة
القضائية ) اذا اجتمعت معا فانها تحقق هدفا غاية في الاهمية ، هو توزيع الضغط
والتأثير والتدخل في شؤون العدالة على مساحة سطحية كبيرة ، فمن يريد امرار اوامره
او رغباته فعليه التأثير في كل واحد من مكونات السلطة القضائية على حده لان كل
واحد منها مستقل عن الاخر ، ولكنه لن ينجح في تحقق غايته ولو استطاع التأثيرا على
مكونات السلطة القضائية ، بل يحتاج – ايضا – الى التأثير في ارادة كل قاض ينظر في
دعواه ، لان كل واحد منهم مستقل عن زملائه ورؤساءه ومكونات السلطة القضائية نفسها ،
اما اذا لم يضمن استقلال مكونات السلطة القضائية
، ولا يضمن استقلال كل قاض بشكل منفرد ، فأن من يريد التدخل في شؤون
العدالة قد لا يحتاج الا الى التأثير في مكان واحد فقط ، ويكون كل ما فعلناه حينما استحدثنا سلطة مستقلة للقضاء هو تغيير
التسميات فقط فابدلنا وزير العدل برئيس مجلس القضاء وابدلنا مجلس العدل بمجلس
القضاء ولا فرق بينهما مطلقا ، اذ يظل القضاء كأنه وزارة يديرها وزير ، في حين
تأبى طبيعة العمل القضائي ان يتشابه القضاء بالوزارة ، لانه يقوم على استقلال
القضاة ، ولا استقلال لموظفي الوزارات .
القاضي
رحيم حسن العكيلي
تموز / 2012
[1] - قلنا هنا :- افراد
القضاة بسلطة مستقلة ، ولم نقل :- ( اخضاع القضاة لسلطة مستقلة ) ، كما لم نقل :-
( ربط القضاة بسلطة مستقلة ) ، لان علاقة القاضي بالسلطة القضائية تختلف تماما عن
علاقة الموظف بالسلطة التنفيذية فهي ليست علاقة خضوع او تبعية ، فعلاقة القاضي
بالسلطة القضائية ليس علاقة تبعية ولاعلاقة خضوع ، فلا رئاسات في السلطة القضائية
، اذ ان كل قاضي رئيس وليس عليه رئيس .
[2] - اما من لا يتبنى الفصل بين السلطات كالفقه الشرقي
الاشتراكي فانه لا يؤمن بالقضاء كسلطة مستقلة لانه يرى ان الفصل بين السلطات يعتبر
اخطر اسفين يتأذى منه المجتمع وتضار به مصالحه . انظر في تفصيل ذلك :- عبد الوهاب
الازرق – هل القضاء سلطة مستقلة – بحث منشور في مجلة العدالة الاماراتية – العدد
الحادي عشر – السنة الثالثة – يوليو – 1976 – ابو ظبي – ص42 .
[3] - عبد الوهاب الازرق – هل القضاء سلطة مستقلة –
مصدر سابق - ص42 .
[4] - د . رمزي سيف – قانون
المرافعات المدنية والتجارية وفقا للقانون الكويتي – 1974 – جامعة الكويت – كلية
الحقوق والشريعة – مطابع مقهوي – الكويت – ص26 .
[5] - د . فتحي والي – الوسيط في قانون القضاء المدني – 1987 – دار
النهضة العربية – مطبعة جامعة القاهرة والكتاب الجامعي – القاهرة – ص160 .
[6] - احمد مهدي الديواني –
السلطة القضائية – بحث منشور في مجلة العدالة الاماراتية – العدد الرابع عشر –
السنة الرابعة – ابريل / 1977 – ابو ظبي – ص77 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق