الخميس، 22 مارس 2018


دور القضـاء فــي مكافحة الفساد
الفساد ظاهرة مركبة معقدة لذلك لابد لمعالجته من التوسل بجميع طرق منعه ومكافحته ، مرة واحدة ، بمنظومة متكاملة من الوسائل الوقائية والعلاجية ، تطبق بجدية وفاعلية معا في آن واحد ، وهذا ما اخذت به اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد .
اذ دعت الدول الى اعتماد تدابير وقائية في الفصل الثاني منها تضمنت وضع وتنفيذ سياسات فعالة منسقة تعزز مشاركة المجتمع المدني وتجسد مبادئ سيادة القانون وحسن ادارة الشؤون والممتلكات العمومية والنزاهة والشفافية والمساءلة ( 5 / 1 ) ، واعتماد وتدعيم نظم التوظيف والترقية والاحالة على التقاعد والتناوب على المناصب وضمان اجور مناسبة ( 7 / 1 ) ، وتبسيط الاجراءات الادارية ( 10 / ب ) ، وتعزيز الشفافية في تمويل الاحزاب السياسية وتمويل الحملات الانتخابية ( 7 / 3 ) ، ووضع نظام شامل لتضارب المصالح ( 7 / 4 ) وكشف الذمة المالية (8 / 5 ) ، ومدونات السلوك ( 8 / 2 ) وقواعد السلوك للجهاز القضائي ( 11 / 1 و2 ) ، وضمان الشفافية وحق الناس في الوصول الى المعلومات واحترام وتعزيز وحماية حرية التماس المعلومات المتعلقة بالفساد ونشرها وتعميمها ، ونشر انشطة اعلامية وتوعوية ومناهج دراسية تسهم في عدم التسامح مع الفساد ( 10 /أ ) و ( 13 ) ، وضمان الشفافية في مفاصل القطاع الخاص ووضع تدابير لمنع ضلوعه في الفساد ( 12 ) وغيرها من التدابير الوقائية الهامة .
في حين دعت في الفصل الثالث منها الى تجريم افعال معينة وترسيخ وتدعيم اجراءات تحقيقية وقضائية مؤثرة وناجعة في مكافحة الفساد ونشر الردع العام بما يؤمن ملاحقة مرتكبي جرائم الفساد وانزال العقاب المناسب بهم ، واسترداد عائداته ، وحرمان الفاسدين من التمتع بها ، ليكونوا عبرة لغيرهم .
وسوف نتعرض الى دور القضاء والمحاكم في منع الفساد ومكافحتة قياسا الى احكام الاتفاقية ، في مبحثين وفق الاتي :-
المبحث الاول :-  دور القضاء في ترسيخ وتدعيم التدابير الوقائية .
المبحث الثاني :- دور القضاء في تحقيق الردع العام .



المبحث الاول
دور القضاء في ترسيخ وتدعيم التدابير الوقائية
للقضاء دور فعال ومؤثر في دعم وتقوية وترسيخ التدابير والاجراءات الوقائية المانعة للفساد من خلال ما يمارسه من ادوار الفصل في المنازعات واقرار المبادئ القانونية وتفسير القوانين ، ودوره كمؤسسة في وضع واقتراح القوانين التي تصب في ميادين منع الفساد ومكافحته . 
ونبحث في هذه الادوار المختلفة الجوانب في ستة مطالب وفق الاتي :-
المطلب الاول :- دور القضاء في تنفيذ التزامات العراق الدولية في منع الفساد ومكافحته .
المطلب الثاني :- دور القضاء في تدعيم وترسيخ انظمة كشف الذمة المالية .
المطلب الثالث :- دور القضاء في تدعيم وترسيخ لوائح السلوك المهني .
المطلب الرابع :- دور القضاء في تدعيم وترسيخ نظم التوظيف والنظم المتعلقة بها .
المطلب الخامس :- دور القضاء في تعزيز الشفافية .
المطلب السادس :-  دور القضاء في التوعية والتدابير الاعلامية .
المطلب الاول
دور القضاء في تنفيذ التزامات العراق الدولية
في منع الفساد ومكافحتة
صادق العراق على اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد بالقانون رقم ( 35 ) لسنة 2007 ، ولكنه لم يخطو لحد الان اي خطوة فعلية في تطبيقها بعد المصادقة عليها ، وبقي ما استجاب العراق اليه من احكامها على ما كان عليه قبل المصادقة عليها .
ويمكن ان يكون للسلطة القضائية دور فاعل في تطبيق احكام الاتفاقية من خلال :-
1-   وضع واقتراح التشريعات المناسبة :- لا قيمة لمصادقة بلد ما على اتفاقية دولية ، ما لم تكن هناك نوايا حقيقية الى ترجمتها الى نصوص وطنية قابلة للتطبيق داخليا ، اذ ان معظم نصوص الاتفاقيات الدولية هي نصوصا عامة لا تصلح بذاتها للتطبيق المباشر ، الا اذا وضعت في اطار تشريعات وطنية ، فالمصادقة على الاتفاقية هي الخطوة تحت الصفر ، اما ترجمتها الى قوانين وطنية فهي الخطوة رقم صفر ، ولا تبدأ الخطوة الاولى الا حينما يطبق القانون على ارض الواقع ، والحقيقة ان المبادرة على وضع النصوص والتشريعات الوطنية المترجمة للاتفاقيات الدولية لا يقتصر على السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية ( باقتراح مشروعات القوانين ) ، بل ان جهات فاعلة اخرى ( كالمجتمع المدني والقضاء ) قد تكون اصلح منهما في وضع مشاريع القوانين المناسبة ،  فالقضاة واعضاء الادعاء العام بما لهم من قدرات علمية وفنية وخبرات متراكمة قادرون على وضع مشاريع القوانين المناسبة لترجمة الاتفاقيات الى نصوص قانونية وطنية ، بل لعلهم الجهة الاكثر دراية والاكثر ارتباطا واهتماما بجوانب معينة من الاتفاقيات كالنصوص والاحكام المتعلقة بالتجريم وقواعد واحكام انفاذ القوانين واسترداد الموجودات والمساعدة القانونية المتبادلة وغيرها ، فالقضاء هو من يطبق تلك النصوص وهو الاقدر على وضع مشاريع القوانين المتعلقة بها ، فتكون السلطة القضائية قد ساهمت مساهمة مهمة في تطبيق الاتفاقيات حينما تتولى وضع مثل تلك المشاريع ، وهي تضمن بذلك نصوصا ذات صياغات صحيحة ومناسبة قائمة على اساس علمي بعيدة عن الهوى والتجاذبات والمصالح السياسية والطائفية والقومية ، والحقيقية ان القوانين التي تحقق اهدافها وغاياتها تكون عنصر من عناصر بناء الثقة للجهات التي تعنى بتطبيقها ، والعكس صحيح فحينما تفشل القوانين عن تحقيق غاياتها يكون ذلك مدعاة لفقدان الثقة بالمؤسسة المعنية بتطبيقها ، لذلك فأن للقضاء مصلحة معتبرة في وضع مشاريع القوانين التي يعنى مباشرة بتطبيقها بما يضمن تحقيق اهدافها .
2-   تطبيق احكام ونصوص الاتفاقية الدولية التي لا يتطلب تطبيقها وضعها باطار وطني :- نصوص الاتفاقيات من جهة النظر الى امكانية تطبيقها المباشر دون انتظار ترجمتها الى نصوص وطنية صنفين :- الصنف الاول :- هي نصوص يستحيل تطبيقها الا اذا ترجمت الى نصوص وطنية مثل النصوص التي تدعو الى التجريم فلا يمكن للمحاكم ملاحقة مرتكب الفعل الذي دعت الاتفاقية الى تجريمه وانزال العقاب به الا اذا قام المشرع الوطني بتجريم الفعل بنص عقابي صريح وتحديد العقوبة المناسبة .الصنف الثاني :- هي نصوص يمكن تطبيقها ولو لم يبادر المشرع الى  اصدار قوانين داخلية بها  ، اذ يمكن للقضاء تطبيق الاحكام الواردة في الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المشرع التي لا تتعارض مع نصوص صريحة في القانون الداخلي ، وتسمع القواعد العامة الداخلية بتطبيقها ، ولا يتطلب تطبيقها نصوصا داخلية ، مثل توفير قواعد خاصة تتيح للشهود والخبراء ان يدلوا باقوالهم على نحو يكفل سلامة اولئك الاشخاص ، كالسماح لهم مثلا بالادلاء بالشهادة باستخدام تكنلوجيا الاتصالات مثل وصلات الفيديو او غيرها من الوسائل الملائمة ( م 32 / 2ـ ب  من اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد )[1] .
3-    الاهتداء بالمبادئ العامة من الاتفاقية باعتبارها معايير دولية واستعمالها اساسا في تفسير النصوص الوطنية والدعوة الى جعل نصوص الاتفاقيات اعلى من القانون وادنى من الدستور . فبعض احكام الاتفاقيات الدولية العامة تتطلب وضعها في اطار وطني لامكانية تطبيقها ، لانها بحاجة الى تفصيل يؤمن تطبيقاتها المختلفة ، كالشفافية وحق الحصول على المعلومات وحماية االشهود والمخبرين والضحايا والخبراء وغيرها ، ولكن يمكن للقضاء اتخاذها مبادئ عامة واستعمالها كمعايير دولية يستند اليها في تفسير القوانين النافذة والاتجاه نحو تطبيق اوسع لتلك المبادئ ، فيتخذ من مبادئ الشفافية مثلا وحق الناس في الوصول الى المعلومات اصل عام وجعل السرية استثناء يتشدد في تطبيقه ، والاخذ بحماية المخبر الذي يبلغ عن وقائع معينة يعتقد بانها جرائم فساد وتظهر خلاف ذلك ، حينما يثبت بانه اخبر بحسن نية ولاسباب وجيهة تطبيقا لنص المادة ( 33 ) من اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد [2]. ويمكن الاخذ بحكم الاتفاقية بشأن الحق بتلقي المعلومات عن الفساد ونشرها وتعميمها ( م 13 / 1- د ) كاساس للدفاع عن حقوق الصحافة والاعلام في تناول قضايا الفساد وفضحها امام الرأي العام .
المطلب الثاني
دور القضاء
في تدعيم وترسيخ انظمة كشف الذمة المالية
 كشف الذمة المالية نظام يفرض على موظفي الدولة او فئات مهمة منهم تقديم تقارير دورية عن اموالهم وموجوداتهم منذ توليهم المنصب لحين انقطاع صلتهم بهم ، لضمان مراقبة ناجعة لهم لفرض شفافية اكبر ، ولتعزيز ثقة الشعب بالحكومة والمسؤولين وكل الفئات المشمولة بهذا النظام . الا ان انظمة الكشف عن المصالح المالية تواجه تحديات ومشاكل هامة في تطبيقها ، اهمها :-
أ‌-      الامتناع عن تقديم الكشف .
ب‌-   تأخير تقديمه عن مواعيده .
ج- اخفاء المعلومات اي عدم الاعلان عن كامل المعلومات المطلوبة باخفاء بعض الاموال مثلا .
د- الكذب بشأن بعض المعلومات .
ومن جهة اخرى فان هذا النظام يتطلب التقصي عن اموال الفئات المشمولة ، وذلك يتطلب تعاون من الجهات والمؤسسات التي تضع يدها على المعلومات لتقديمها الى الجهة المعنية بالتقصي عن اموال موظفي الدولة ، كدوائر التسجيل العقاري والبنك المركزي والمصارف ودوائر المرور ومسجل الشركات وغيرها . ويكون للقضاء دور فاصل وجوهري في ضمان الالتزام بتقديم كشوفات المصالح المالية في مواعيدها وتضييق حالات الامتناع عن تقديمها ، وحالات اخفاء المعلومات والكذب بِشانها ، من خلال التشدد في ملاحقة مرتكبي مثل تلك المخالفات وعدم التهاون في ملاحقتهم او تخفيف عقوباتهم ([3])، ومن خلال الزام المؤسسات التي تضع يدها على المعلومات لتقديمها الى الجهة المعنية بتقصي الحقائق واقرار المبادئ القضائية التي ترصن وتعضد ذلك .
المطلب الثالث
دور القضاء
في تدعيم وترسيخ لوائح السلوك المهني
 توضع لوائح السلوك المهني كقواعد عامة تؤسس لمعايير سلوكية تضمن الاداء الصحيح والمشرف والسليم للوظائف العمومية ، على ان يترتب على مخالفة تلك القواعد والمعايير تدابير تأديبية ، تكون رادعا لمنع تكرار تلك المخالفات ، وترسيخ التقاليد والقيم الادارية والوظيفية الصحيحة ، ولا شك ان للمحاكم المعنية بالنظر بطعن الموظفين - المخالفين لقواعد السلوك - في العقوبات التي تفرض عليهم دور اساسي وجوهري في ترسيخ تلك القيم والمعايير والمبادئ او اهدار العمل بها ، فحين تلتزم المحاكم المختصة بدعم القرارات الادارية الصحيحة بفرض العقوبات المتناسبة مع المخالفات المرتكبة وتمتنع عن التساهل مع المخالفات المرتكبة ، وتقف بوجه الضغوط الاجتماعية والسياسية ، فتكون حين ذاك اداة من ادوات التعضيد لتلك المعايير .
 اما اذا تساهلت في تطبيق تلك المعايير وتوجهت الى التخفيف من العقوبات المفروضة او الغائها بلا وجه حق سوى النظر المتساهلة للمخالفات الادارية ، او لعدم ادراك اهمية تلك القواعد والمعايير في ضبط القطاع العام ، ويمكن ان يكون دور القضاء سلبيا – ايضا - في التعامل مع هذا الموضوع حينما يتشدد في طلب الادلة لاثبات المخالفات الادارية .  وقد يكون سوء تعامل القضاء مع هذا الملف من خلال التوسع او التضييق في نصوص لوائح السلوك ونصوص القوانين باتجاه التسامح مع المخالفات التأديبية ، بتضييق نطاق المخالفات وتضييق نطاق العقوبات . 
المطلب الرابع
دور القضاء في تدعيم وترسيخ نظم التوظيف
والنظم المتعلقة بها
اذ ان للقضاء دور هام في توجهات القوانين المنظمة للوظيفة العامة من خلال فصله في المنازعات بين الادارة والموظفين اوالافراد فيما يتعلق بتطبيقات نظم التعيين والترشيح للمناصب العمومية ، ونظم التدوير الوظيفي والاحالة على التقاعد وغيرها ، فلابد للقضاء من الالتزام بالمعايير الدولية والدستورية في تفسير النصوص الحاكمة للوظيفة العامة ، كالالتزام بابطال التعيينات التي لا تحترم الحق بتكافؤ الفرص بين العراقيين في تولي الوظيفة العامة باعتباره حق دستوري ، والالتزام باحترام حق الادارة في تدوير موظفيها تطبيقا لقواعد تناوب الموظفين على المناصب باعتباره احد وسائل مكافحة الفساد الفاعلة .
المطلب الخامس
دور القضاء في تعزيز الشفافية
الشفافية مبدأ من ( المبادئ العامة الحاكمة ) ، التي يتوجب بالقضاء الالتزام بفرضها على الادارة وجميع مفاصل الدولة والمجتمع بدون استثناء ، الا في حدود ضيقة جدا ، وذلك يكون عن طريق الالتزام بتفسير النصوص وحسم المنازعات باتجاه فرض المزيد من الشفافية ، ومنع دعم اي سرية غير مقبولة في ميادين عمل الادارة ، والاخذ بالتطبيقات المختلفة لهذا المبدأ كاصول عامة حاكمة مثل شفافية تمويل الاحزاب وشفافية تمويل الحملات الانتخابية ودعم حق الناس في الوصول الى المعلومات من خلال التوسع في تفسير النصوص الدستورية والقانونية واحكام الاتفاقية بما يؤمن اجبار الادارة على الاعلان للناس عما لديها من معلومات الا في حدود ضيقة جدا .
المطلب السادس
دور القضاء في التوعية والتدابير الاعلامية
ويكون من خلال ممارسة دور اعلامي فاعل للقضاء باعتباره القوة الرادعة لمنع ممارسات الفاسد من خلال نشر الاحكام النهائية على الفاسدين بما يؤمن تحقيق ردع عام ، ونشر احصاءات دورية - كأن تكن شهريا او نصف سنوي او سنويا - عن جهود القضاء في ملاحقة جرائم الفساد ، تتضمن معلومات وافية تعطي تصورا كاملا عن نهج القضاء في ملاحقة جرائم الفساد وما استقر عليه من احكام ومبادئ ، اذ ان احكام القضاء لا تحقق الا ردع محدود في حالة تضييق الاعلان عنها ، اما اذا نشرت على نطاق واسع عن طريق وسائل الاعلام المختلفة فانها تساهم في نشر الردع العام في جميع مفاصل الدولة والمجتمع ، وتحقق غاية هامة اخرى تتمثل في زيادة ثقة الناس بالقضاء وتعاظم هيبته .
المبحث الثاني
دور القضاء في تحقيق الردع العام
يتحقق الردع العام حينما تتمكن الجهات المعنية بمكافحة الفساد من جعل الفساد مشروع عالي المخاطر ، وهذا لا يتحقق الا من خلال ملاحقة جدية وحازمة وكفوءة لجرائم الفساد ، فأذا مرت ممارسات الفساد في مجتمع ما بلا مساءلة ولا حساب او عقاب فأن تلك الممارسات تنمو وتتأصل وتتجذر في المجتمع الى الحد الذي تنقلب فيه قيمه ، فتنشأ فيه قيم تحتضن الفساد ، وتدافع عنه وتصبح ممارساته وظواهره مقبولة او يتسامح المجتمع معها ، فيصعب – حين ذاك - مواجهتها او التصدي لها .
فالمساءلة هي ركن العمل ضد الفساد ، وهي عناصر او اصناف متعددة اهمها :-
1-   المساءلة القضائية .
2-   المساءلة الانتخابية.
3-   المساءلة البرلمانية .
4-   المساءلة الشعبية .
5-   المساءلة الرئاسية .
6-   مساءلة الاعلام والمجتمع المدني .
7-   مساءلة الهيئات المستقلة .
ولايمكن قيام ( المساءلة ) الناجعة المؤثرة في الحد من الفساد الا بتفعيل جدي حقيقي شامل لجميع العناصر او الاصناف السبعة المذكورة ، فلا تكفي المساءلة القضائية او البرلمانية اوالانتخابية لوحدها ولـــــــو كانت شديدة وصارمة .
ورغم ان المساءلة القضائية هي اقوى اصناف المساءلة من حيث الاثر المترتب عليها ، اذ انها قد تسلب ارواح المتهمين او حرياتهم او اموالهم او وظائفهم ، ولكنها اضعف اصناف المساءلة السبعة من حيث اعتمادها على الدليل الذي قد يبالغ القضاء في طلبه الى حد تعطيلها ، كما ان لها نقطة ضعف اخرى مهمة  تتمثل في ان من يمارسها هم محققون وقضاة مستقلون لا يحميهم سوى القانون وهم عرضة لانواع التأثيرات والضغوط الاجتماعية والمادية والاقتصادية والمالية والسياسية ، وقد تحرفهم تلك الضغوط عن الملاحقة الجدية لمرتكبي جرائم الفساد و انزال العقاب المناسب وافلات العدد الاكبر منهم ، مما يضعف جهود مكافحة الفساد لفقدانها العنصر الاقوى اثرا والاكثر تحقيقا للردع العام ( المساءلة القضائية ) .   
وتعد المحاكم الجزائية ( محاكم التحقيق والجنايات والجنح ) هي صاحبة الدور الرئيسي في التصدي للفساد والضرب عليه والوقوف بوجه ممارساته ، لما تمتلكه من سلطة قانونية عليا في ملاحقة الجريمة وانزال العقاب المناسب بمرتكبيها ، ولان الاجراءات الجزائية هي وسائل القهر القانونية الاقوى على الاطلاق لانها تعطي القضاء سلطات سلب الحريات والارواح والاموال .
ولا تنحصر نجاعة الاجراءات القضائية ضد الفساد في توقيع العقوبات على مرتكبي جرائم الفساد بل تمتد الى اجراءات ملاحقة واسترداد عائدات الفساد .
وسوف نتناول في هذا المبحث دور القضاء في الامرين وفق الاتي :-
المطلب الاول :- دور القضاء في ملاحقة مرتكبي جرائم الفساد .
المطلب الثاني :- دور القضاء في استرداد عائدات الفساد .
 
المطلب الاول
دور القضاء في ملاحقة مرتكبي جرائم الفساد
للقضاء دور واضح ومؤثر في تحقيق الردع العام من خلال ملاحقة مرتكبي الفساد ، وينهض هذا الدور منذ تحريك الشكوى الجزائية ولحين الفصل فيها بحكم نهائي ، الا ان هذا الدور يعتريه الكثير من سلبيات واعراض التعامل القضائي غير المناسب لاسباب عديدة .
لذا سنقسم هذا المطلب الى فرعين نتعرض في الاول لموضوع ملاحقة مرتكبي جرائم الفساد ، ونتناول في الثاني سلبيات التعامل القضائي مع قضايا الفساد .
الفرع الاول
ملاحقة مرتكبي جرائم الفساد
تصدر المحاكم الجزائية احكاما بالادانة والعقوبة على مرتكبي مختلف الجرائم بضمنها جرائم الفساد ، وقد تصل عقوباتها الى الاعدام او السجن مدى الحياة او السجن المؤبد ، فأذا اتسع نطاق المحكومين من المتورطين بالجرائم خصوصا من كبار الموظفين والمتنفذين واضحى الافلات من العقاب امر محدود الاحتمال ، فان الغاية من تجريم الافعال وتحديد العقوبات عنها تتحقق ، من خلال ردع الجاني وجعله عبرة لغيره ، فيتجنب الناس التورط في ارتكاب افعال مماثلة .
ولكن ذلك لا يتحقق الا اذا كانت الملاحقات الجزائية صارمة وعادلة وجدية وبعيدة عن التأثر بالضغوط سواء اكانت اجتماعية او مالية او سياسية او ادارية او رئاسية .
ولا يقتصر اثر الاجراءات التي تتخذها المحاكم الجزائية في تحقيق الردع العام على الاثر الذي تحققه الاحكام النهائية التي تصدرها محاكم الموضوع ( الجنايات والجنح )، بل ان اجراءات محاكم التحقيق اثناء اجرائها التحقيق الابتدائي هي الاخرى ذات اثر لا يستهان به في تحقيق الردع العام ،اذ ان الاجراءات الجزائية بطبيعتها ولو لم تنته الى الحكم على المتهم او القاءه في السجن بحكم نهائي بالادانة والعقوبة ، فانها تنتج اثرها ولو توقفت عن حدود معينة قبل الفصل في الدعوى ، فمجرد توجيه الاتهام التحقيقي ضد شخص ما واجباره على الحضور امام الجهة التحقيقية المختصة للاجابة على التهم الموجهة اليه او توقيفه فان ذلك يترك اثرا ردعيا كبيرا .
و تحقق الملاحقة القضائية بعض اثارها ولو هرب المتهم دون ان تمسه – مباشرة - اجراءات القهر الجزائية كالقاء القبض والتوقيف وضبط الاموال او منعه من التصرف بها ، لان مجرد اعتباره مطلوبا للعدالة و مطاردته ولو خارج البلاد وفضحه اعلاميا ، يترك اثرا بالغ الاهمية في المجتمع .
الفرع الثاني
سلبيات التعامل القضائي مع قضايا الفساد
الا ان الملاحقات الجزائية يصيبها الضعف ويقل احتمال تحقيقها لغاياتها حينما يتعامل القضاة معها بممارسات مخالفة للقانون او بطريقة لا تتلائم مع الفلسفة التي وضعت من اجلها اما تساهلا وتسامحا او تواطأ ، وهذه قد تأتي نتيجة للضغوط التي تمارس على القضاء ، او نتيجة لممارسات الفساد داخل المؤسسة القضائية ، او نتيجة لنظرة القضاء المتساهلة او المتسامحة مع بعض الافعال المجرمة سواء اكان ذلك تابعا لنظرة المجتمع الى تلك الافعال او بسبب نظرة القضاء او القاضي اليها ،  ومن اهم هذه الممارسات السلبية :-
1-   تخفيف العقوبات :- اذ قد تتبنى محاكم الموضوع عقوبات خفيفة لا تتلائم مع خطورة الافعال التي يرتكبها المجرومون وذلك يؤثر سلبيا في تحقيق ردع عام مؤثر . اذ حكمت محكمة جنايات الرصافة عام على مدراء عامين وضباط في وزارة الدفاع يحملون رتب كبيرة بالحبس سنة واحدة وحبس ثلاث سنوات عن جريمة رشوة بمبلغ تسعمائة مليون دينار ، كما حكمت ضابط كبير بالحبس سنتين عن تلقيه رشوة بمبلغ خمسين الف دولار كدفعة اولى .
2-   ايقاف التنفيذ :- تجيز القوانين العقابية - عادة - للمحاكم فرض عقوبات معينة وايقاف تنفيذ العقوبات ، حينما تتحقق شروط معينة ، الا ان استعمال هذه السلطة  يتوجب ان يحصر في نطاق ضيق جدا ، لان المبالغة في استعمالها قد يؤدي الى اعدام اي اثر للردع الجزائي . ففي عام 2010 اوقفت المحاكم تنفيذ الاحكام بالحبس بحق ما نسبته 33% من مجموع المحكومبن حضوريا بقضايا فساد[4].
3-   المبالغة في طلب الادلة :- فقد تتشدد محاكم الموضوع في طلب الادلة الى الحد الذي يخفف من الملاحقات الواجبة لمرتكبي الجرائم ، مما يسمح بافلات عدد كبير منهم رغم توفر ادلة معقولة ضدهم تكفي لادانتهم عن الجرائم المنسوبة اليهم .
4-   التلاعب في التكييف القانوني :- فاما ان تتجه المحكمة الى تكييف فعل المتهم تكييفا يتلائم مع الجريمة الاقل عقوبة خلافا لحقيقية التكييف الصحيح للفعل ، مثل ان تكيف فعل المتهم وفق المادة ( 308 ) من قانون العقوبات على اساس ان الفعل الذي طلب الرشوة عنه لا يدخل في اعمال وظيفته ولكنه زعم ذلك او اعتقده خطأ ([5])، تجنبا للعقوبة الاشد في حالة اعتبار الفعل الذي طلب الرشوة عنه يدخل في اعمال وظيفته ([6])، واما ان تنفي المحكمة الصفة الاجرامية عن الفعل على اساس انه لا ينطبق ونص عقابي معين ، مثل الحكم ببراءة المتهم الذي يتقاضى راتبين عن وظيفتين على اساس ان الفعل لا ينطبق مع نص عقابي معين . الا ان هذا التلاعب في التكييف القانوني او التسامح بشأنه لا يقف عن محاكم الموضوع بل قد تلجأ محاكم التحقيق الى ذلك من اجل تخفيف من صرامة الاجراءات المطلوبة .
5-   حصر المسؤولية بالصغار :- فيتجنب القضاء - سواء في دور التحقيق او المحاكمة - توجيه اجراءاته نحو كبار المتنفذين سياسيا او اجتماعيا ، ويكتفي بملاحقة صغار المتورطين ، اما ليتجنب الاصطدام بكبار المتنفذين المتورطين ، واما نتيجة ضغوط سياسية او مادية او اغرائية او اجتماعية او رئاسية  تمارس ضد القضاة .
6-   التمييز في الاجراءات بين المتنفذين وغير المتنفذين :- وهذه نقطة مختلفة عن حصر المسؤولية بالصغار ، لان القضاء هنا يوجه الاتهام للمتنفذين ايضا ، ولكنه يميز بينهم في لاجراءات القهرية وفي العقوبات ، فيخفف اجراءته ضد المتنفذين ويتشدد بها ضد الصغار وغير المتنفذين . فيصدر امرا بالقبض على المتهم غير المتنفذ على وجه الاستعجال ، ويحجز امواله ، ولكنه يتأنى ويتراخى في اتخاذ الاجراءات ضد المتنفذين المتورطين بنفس الجريمة ، فأذا اضطر الى اتخاذ الاجراءات بحق  هؤلاء خففها ، فيستقدمهم بورقة تكليف بالحضور بدل امر القبض، ويتشدد في تبليغ اوراق التكليف بالحضور اليهم ويبطلها لاتفه الاسباب ، واذا تخلفوا عن الحضور فلا يصدر امر القبض بحقهم بسهولة ، وقد يتراخى كثيرا في حجز اموالهم . فأذا حضروا او اجبروا على الحضور فانه يطلق سراحهم بكفالة في ذات يوم حضورهم في حين يتم يتوقيف المتهمين غير المتنفذين في نفس القضية .
7-   التراخي او الاهمال في جمع الادلة :- وهذا قد يتورط فيه المحققون اكثر مما يتورط به القضاة ، فيهمل المحقق جمع الادلة او يتراخى في جمعها الى ان تضيع ، الا ان ذلك لا يعفي القضاة من مسؤولياتهم في الزام المحققون جمع الادلة بجدية وفاعلية وسرعة ، فالمسؤولية هنا مشتركة .
8-   التوسع في تفسير وتطبيق الحصانات التي ينص عليها القانون :- فقد تنص القوانين على منع الملاحقات الجزائية الا بموافقة جهة معينة مثل نص المادة ( 111 ) من قانون اصول المحاكمات الجزائية لقوى الامن الداخلي التي منعت اتخاذ الاجراءات الجزائية بحق رجل الشرطة الا بموافقة وزير الداخلية ، او قد تنص على عدم جواز الاحالة على المحاكمة الا باذن جهة معينة مثل نص المادة ( 136 ) الاصولية الملغاة ، او قد ينص القانون على عدم جواز اتخاذ اجراء معين ضد فئات معينة كالنواب الا باذن من مجلس النواب او رئيس مجلس النواب بشروط معينة بنص المادة ( 63 ) من الدستور العراقي لعام 2005 .  والاصل في تفسير تلك النصوص هو حصرها في اضيق نطاق لانها استثناء من الاصل العام فلا يجوز التوسع في تفسيرها ، الا ان القضاء احيانا قد يتوسع توسعا كبيرا في تفسيرها فيعطي الفرصة لافلات عدد كبير من مرتكبي الجرائم ، فقد توسع القضاء توسعا مبالغا به في تفسير المادة 136 / ب من قانون اصول المحاكمات الجزائية التي الغيت قبل حوالي ثلاثة اشهر فقط في ايلول من هذا العام 2011 ، مما سمح بلافلات عدد كبير من الموظفين المتورطين بالفساد . وفعل مثل ذلك في تفسير المادة ( 63 / ثانيا- ب ) من الدستور التي منعت ( القاء القبض ) على النائب بشروط معينة ، بان فسرها بانها تمنع اتخاذ الاجراءات الجزائية ضدهم مطلقا فلا يجوز استقدامهم ولا توقيفهم الا بموافقة مجلس النواب برفع الحصانة عن النائب ، في حين ان التفسير الضيق للنص يوحي بجواز اتخاذ الاجراءات الجزائية كافة بحق عضو مجلس النواب باستثناء تنفيذ امر القبض ضده اثناء الفصل التشريعي الا بموافقة مجلس النواب برفع الحصانة عنه ، فيجوز تحريك الشكوى ضده واصدار القرار بتكليفه بورقة تكليف بالحضور فأذا حضر فللقاضي توقيفه ، ويجوز اصدار امر القبض بحقه فأذا حضر من تلقاء نفسه جاز توقيفه دونما حاجة لموافقة مجلس النواب .
9-   تعقيد الاجراءت :- فتكرار الاجراءات مثل تكرار تدوين اقوال المخبرين والشهود بلا مبرر قانوني ، والاصرار بطلب اتخاذ اجراءات لا قيمة حقيقية لها مثل اكتساب المجنى عليه الشفاء التام في جريمة تعذيب السجناء ، والاصرار على تدوين اقوال المدعين بالحق الشخصي في جرائم قتل السجناء ممن ليس لديهم شهادة عيانية وغيرها ، فأن ذلك يؤثر تأثير سلبيا كبيرا في جدية وسرعة اتخاذ الاجراءات الجزائية ضد مرتكبي الجرائم ، ويترك – بعضها - اثرا سلبيا كبيرا في الاستجابة الى الاجراءات الجزائية والى التعاون مع السلطات التحقيقية ، فتكرار تدوين اقوال المخبر عن جريمة الفساد – التي سبق ان اخبر عنها المحقق - امام قاضي التحقيق بظروف صعبة وبلا احترام مناسب وبطريقة تأخذ الكثير من وقته يؤدي الى احجام الناس عن الاخبار ويفقدهم الثقة بالاجراءات القضائية .
المطلب الثاني
دور القضاء في استرداد عائدات الفساد
لا يكفي في الجرائم المالية ملاحقة مرتكب الجريمة والقاءه في السجن ، في حالة ما اذا كان قد حصل على مردود مالي كبير من جريمته ، لانه سينتظر انتهاء محكوميته ليعود الى اموال الفساد ليحيا معها حياة هانئة تعوضه عن سنوات سجنه ، او تهنأ - بتلك الاموال - عائلته والمقربين منه ، فلعله يعجز عن جمع تلك الاموال الضخمة ولو عمل ليل نهار خلال ضعف الفترة التي يقضيها في السجن ، فتكون صفقة رابحة للفاسد ان يقضي بعض الوقت في السجن اذا ما افلت باموال الفساد الضخمة ، فرغم ان مرتكب جرائم الفساد يلحق ضررا بالغا في المصالح العامة ، الا انه – في الحقيقة - لا يقصد ذلك ، بقدر ما يقصد الحصول على منافع خاصة من خلال جنيه اصولا وامولا تزيد من ثروته وتؤمن له حياة مرفهة ومكانة عالية ، وتأثيرا اجتماعيا وسياسيا في بلده ، فلا شك ان تكون – اذن - استعادة الاصول والاموال المسروقة من اكثر اودات معالجة الفساد نجاعة ، لانها تحرم الفاسدين من التمتع بثمار جرائمهم التي ما ارتكبوها الا لجني تلك الثمار ، فحرمان الفاسد من ثمار فساده اكثر ايلاما له حتى من ايداعه في السجن احيانا ، خاصة مع احكام الحبس قصيرة المدة ، اذ يأمل الفاسد انقضائها ليعود الى حريته مع اموال طائلة قد تجعله من القادة او المؤثرين في الدولة والمجتمع ، بل ان اموال الفساد اذا لم تتم ملاحقتها بكفاءة وفاعلية وسرعة قد تكون اداة من ادوات الفاسدين في التأثير على التحقيق وحرف مساره لمصلحتهم ، خاصة في البلدان النامية التي لم يستقر فيها حكم القانون بقوة كافية ، كما ان افلات الفاسدين باموال الفساد يشجع الاخرين على ارتكاب افعال مماثلة ، وهو مدعاة لبعث الاحباط واليأس في نفوس الناس وسبب من اسباب فقدان ثقتهم بالحكومة وبالمؤسسات الرقابية والجهات المعنية بمكافحة الفساد والقضاء ، بل يؤدي قطعا الى اهدار سيادة القانون وزعزعة ايمان الشعب بها . 
فلا تقف – اذن – حدود الاثار السلبية لسرقة الاموال العامة على الخسارة المالية التي تلحق بالمصالح العامة والمشاريع والخدمات ، بل تتعداها الى ابعد من ذلك فهي رسائل وادوات لتعطيل حكم القانون والتشجيع على خرقه واهداره .
وقد اظهرت اساليب الفاسدين في تهريب واخفاء اموال الفساد وتمويه مصادرها غير المشروعة اكثر مسائل القانون والتحقيق تعقيدا ، فدأب الفاسدون – خاصة كبارهم من القادة والسياسيين – على تهريب اموالهم الى بلدان اخرى ليجدوا فيها ملاذا يأمنون فيه من ان تطالهم يد سلطات انفاذ القوانين والقضاء في بلدانهم .
ولا يخفى هنا ان دور القضاء خصوصا قضاة التحقيق والمحققين هو دور بالغ الاهمية ، لانهم الاداة الفاعلة التي يؤمن بها تحقيق الملاحقة المطلوبة لعائدات الفساد لضمان استردادها ، ومنع المتهمين من التمتع بها ، من خلال وضع الحجز على تلك الاموال وضبطها وضمان ملاحقتها بالسرعة المطلوبة للحيلولة دون تهريبها واخفائها وفقا للقواعد المنصوص عليها في المواد 183 – 187 من قانون اصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 المعدل .
وقد عالجت اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد في المادة ( 31 ) منها احكام تجميد وحجز ومصادرة العائدات الاجرامية والممتلكات والمعدات والادوات المستخدمة في ارتكاب الجريمة ، ونظمت احكام استرداد الموجودات وعائدات الفساد باعتباره احد مبادئها الرئيسية في الفصل الخامس منها في المواد 51 – 60 منها بصورة تفصيلية ، وذلك يبرز الاهتمام الدولي الكبير بهذا الموضوع البالغ التأثير ضمن اجراءات وتدابير ملاحقة الفساد .  
ان تأمين ملاذات آمنة لعوائد الفساد خارج البلدان التي سرقت منها ، هي من اكثر حوافز ( الفساد الكبير ) خطورة . وهذا يضع الدول التي قد تكون مأوى للفاسدين امام مسؤولياتها في اتخاذ ما يلزم لضمان الفحص الدقيق لحسابات الاشخاص المعرضين سياسيا ([7])، وضمان حق الدولة المتضررة في اقامة الدعوى المدنية للمطالبة برد الاموال المسروقة ، وان تسمح قوانينها بانفاذ اوامر المصادرة الصادرة من تلك الدولة ، وان تجيز مصادرة اموال الفساد بقرار قضائي ولو بدون حكم ادانة جنائية . وان تضع نصوصا تجيز تجميد او حجز الممتلكات والاصول لضمان حق الدولة التي سرقت اموالها .
ولابد - لضمان ملاحقات ناجعة لاسترداد الاموال المسروقة المهربة للخارج – من توفير المتطلبات الاتية :-
1-     ايجاد تنظيم قانوني وطني يحدد اليات وطرق واجراءات تقديم المساعدة القانونية للدول الاخرى لتكون خارطة طريق للدول طالبة المساعدة وللمؤسسات المعنية داخل الدولة المطلوب اليها تقديم المساعدة .
2-     ضمان وجود اليات حقيقية واقعية للتعاون الدولي في ميدان تبادل المعلومات خصوصا فيما يتعلق بالاصول والاموال وانتقالها بين دولة واخرى .
3-     تشجيع مشاركة او تقاسم الجهات التحقيقية المعنية في الدول المختلفة للمعلومات التي تتضمنها كشوفات الذمم المالية عن اموال كبار موظفي الدول وافراد عوائلهم والاشخاص وثيقي الصلة بهم عندما يكون ذلك ضروريا للتحقيق في العائدات والاصول المتأتية من جرائم الفساد او من غسل عائداته .
4-     ايجاد مخارج قانونية واقعية توازن بشكل مقبول بين احترام مبدأ السرية المصرفية وضرورات ملاحقات ناجعة سريعة وفاعلة لعائدات الفساد .
5-     العمل على توفير المساعدة للدول النامية من خلال توفير برامج طموحة للتدريب و توفير المعدات الحديثة لها .  
وتحقق ملاحقة اموال الفساد غاياتها ولو لم يؤد ذلك الى استعادتها لمصلحة البلد الذي سرقت منه ، فقد تبدو تجربة  ( الجزائر ) التي لاحقت ( 600 ) مليون دولار سرقت منها وهربت الى احد البلدان الاوربية وتمكنت اخيرا بعد اخراج المصاريف من استرداد ( 300 ) دولار فقط ، قد تبدو هذه التجربة عند البعض تجربة فاشلة ، ولكنها – في الحقيقة - حققت نصف النجاح المطلوب ، لان ملاحقة واسترداد عائدات الفساد تسعى الى تحقيق امرين مهمين الاول اعادة الاموال المسروقة لاستثمارها في ميادين التنمية والاعمار والثاني - وهو الاهم لدينا - تحقيق الردع العام بارسال رسالة الى الجميع بان من يتورط في سرقة اموال بلده لن يتمتع بها ولن يكون له مأوى آمن في كل الكرة الارضية . ولا شك ان حرمان الفاسد من التمتع بالاموال التي سرقها ولو بدون اعادتـــــــــــــــــــــهــــــا  خير من تمكينه من الافلات للتمتع بها . 
وكان للعراق تجربة مهمة في ملاحقة وتجميد مبلغ اختلس من احد المؤسسات الرسمية العراقية بين عامي 2009 و2010 ، فقد اختلس مبلغ ( 17 ) مليار دينار عراقي ( حوالي ( 16 ) مليون دولار امريكي ) من امانة بغداد ، وقد تمكنت المتهمة الرئيسية من الافلات بجواز سفر مزور الى خارج العراق باسم وهمي ، الا ان هيئة النزاهة تمكنت من معرفة الاسم الوهمي الذي تستعمله المتهمة ، كما جمعت معلومات عن كونها حولت عن طريق احد شركات الصيرفة الى بنك خاص في الاردن مبلغ ( 5,700,000 ) دولار ، حول منها لاحقا ( 3 ) ملايين دولار الى فرع المصرف في لبنان ، فانتقل محققوا الهيئة الى لبنان والاردن لملاحقة المتهمة والمبلغ ،  تمكنت في النهاية من تجميد مبلغ مليوني دولار في الاردن ، ومبلغ ثلاثة ملايين دولار و ( 322 ) مليون ليرة لبنانية في لبنان ، اضافة الى حجز عقار كانت قد اشترته المتهمة بالاموال المختلسة ، وتم القاء القبض على المتهمة ووالدتها وشقيقتها وزوج شقيقتها ، وتجميد ارصدتهم ، ورفع السرية عن حساباتهم ، بتعاون متميز من هيئة مكافحة تبيض الاموال في بيروت والسلطات الاردنية المختصة.
وكانت اهم دروس تلك التجربة :-
1-      الاهمية القصوى للعمل في ميدان ملاحقة الاموال المختلسة المهربة الى الخارج بقدر الاهمية الكبيرة لملاحقة الفاسدين . لانها تعطي رسالة ردع قوية الى الفاسدين توحي بقوة المؤسسات المعنية بمكافحة الفساد وانها قادرة على ملاحقتهم ولـو هربوا باموالهم التي سرقوها الى الخارج .
2-      ضرورة قيام الدولة التي اختلست منها الاموال بملاحقتها بنفسها اذا ما هربت الى الخارج وعدم الاعتماد مطلقا على ملاحقة الدولة التي هربت اليها الاموال .
3-      اهمية التعاون والتنسيق غير الرسمي مع المعنيين في الدول التي هرب اليها المتهمون او هربت اليها الاموال المسروقة ، والا فان الاعتماد على الاودات الرسمية لن يجدي نفعا لانه عملية عقيمة وبطيئة جدا وغير مجدية .
4-      ولا يكفي التعاون والتنسيق غير الرسمي بل يتوجب ان يكون التنسيق والتعاون قائم على اساس التواصل الودي المباشر .
5-      الاهمية العظمى لتبادل المعلومات وانفتاح الطرفين احدهما على الاخر بطريقة تخدم ملاحقة الفاسدين بسرعة وفاعلية .




[1] - نصت المادة ( 32 ) من الاتفاقية تحت عنوان ( حماية الشهود والخبراء والضحايا ) :- ( 1- تتخذ كل دولة طرف تدابير مناسبة وفقا لنظامها القانوني الداخلي ، وضمن حدود امكانياتها ، لتوفير حماية فعالة للشهود والخبراء الذين يدلون بشهادة تتعلق بافعال مجرمة وفقا لهذه الاتفاقية وكذلك لاقاربهم وسائ الاشخاص الوثيقي الصلة بهم عند الاقتضاء ، من اي انتقام او ترهيب محتمل . 2- يجوز ان تشمل التدابير المتوخاة في الفقرة ( 1 ) من هذه المادة ، دون مساس بحقوق المدعى عليه ، بما في ذلك حقه في محاكمة حسب الاصول :- أ- ارساء اجراءات لتوفير الحماية الجسدية لاولئك الاشخاص ، كالقيام مثلا ، بالقدر اللازم والممكن عمليا ، بتغيير اماكن اقامتهم والسماح عند الاقتضاء بعدم افشاء المعلومات المتعلقة بهويتهم واماكن تواجدهم او بفرض قيود على افشائها . ب- توفير قواعد خاصة بالادلة تتيح للشهود والخبراء ان يدلوا باقوالهم على نحو يكفل سلامة اولئك الاشخاص ، كالسماح مثلا بالادلاء بالشهادة باستخدام تكنولوجيا الاتصالات ، مثل وصلات الفديو او غيرها من الوسائل الملائمة .3- تنظر الدول الاطراف في ابرام اتفاقيات او ترتيبات مع دول اخرى بشأن تغيير اماكن اقامة الاشخاص المشار اليهم في الفقرة ( 1 ) من هذه المادة . 4- تسري احكام هذه المادة ايضا على الضحايا اذا كانوا شهودا . 5- تتيح كل دولة طرف ، رهنا بقانونها الداخلي ، امكانية عرض آراء وشواغل الضحايا واخذها بعين الاعتبار في المراحل المناسبة في الاجراءات الجنائية المتخذة ضد الجناة على نحو لا يمس بحقوق الدفاع . ) .
[2] - نصت المادة ( 33 ) من اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد تحت عنوان ( حماية المبلغين ) :- ( تنظر كل دولة طرف في ان تدخل في صلب نظامها القانوني الداخلي تدابير مناسبة لتوفير الحماية من اي معاملة لا مسوغ لها لاي شخص يقوم ، بحسن نية ولاسباب وجيهة ، بابلاغ السلطات المختصة باي وقائع تتعلق بفعال مجرمة وفقا لهذه الاتفاقية .) .
[3] - حركت هيئة النزاهة دعوى ضد مدير عام في امانة بغداد عام 2010 لعدم ذكر رصيدين مصرفيين له في الاردن فيهما حوالي مليوني دولار في كشوفات ذمته المالية ، فاطلق قاضي التحقيق سراحه بكفالة في اليوم نفسه ، واحيل على محكمة جنح الكرادة فقضت بادانة وفق المادة ( 247 ) من قانون العقوبات التي نصت ( يعاقب بالحبس او الغرامة كل من كان ملزما قانونا باخبار احد المكلفين بخدمة عامة عن امر ما او اخباره عن امور معلومة له فامتنع قصدا عن الاخبار بالكيفية المطلوبة وفي الوقت الواجب قانونا . ... ) وحكمت عليه بغرامة خمسمائة الف دينار عراقي وهو يعادل ( 400 ) دولار امريكي فقط .
[4] - التقرير السنوي لهيئة النزاهة – 2010 ص 21، بلغ عدد المحكومين في قضايا حققت فيها هيئة النزاهة عام  2010 ( 1016 ) محكوم منهم ( 528 ) حكموا حضوريا بنسبة ( 51,97 % ) ، اوقفت المحاكم تنفيذ احكام الحبس بحق( 173 ) منهم بنسبة ( 32,77 % ) .
[5] - نصت المادة ( 308 ) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 :- ( كل موظف او مكلف بخدمة عامة طلب او قبل لنفسه او لغيره عطية او منفعة او ميزة او وعدا بشئ من ذلك لاداء عمل او الامتناع عن عمل لا يدخل في اعمال وظيفته ولكنه زعم ذلك او اعتقده خطأ يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات او بالحبس والغرامة على ان لا تقل عما طلب او اعطى او وعد به ولا تزيد باي حال على خمسمائة دينار .) .
[6] - حكمت محكمة جنايات الرصافة بالعدد 2088 / ج / 2011 في 5 / 9 / 2011 على قائد عسكري برتبة لواء بالحبس لمدة سنتين وغرامة مليون ومائة الف دينار وفق المادة 308 من قانون العقوبات عن قبضه رشوة خمسين الف ولار كدفعة اولى ، على اساس ان الفعل لا يدخل في اعمال وظيفته ، فنقضت محكمة التمييز الاتحادية الحكم بقرارها المرقم 12536 / 12538 / 12540 / الهيئة الجزائية الثانية / 2011 في 4 / 10 / 2011 للحكم عليه وفق القرار 160 لسنة 1983 المعدل بالقرار 703 لسنة 1983 المشدد لان الفعل الذي طلب عنه الرشوة يدخل في اعمال وظيفته ، الا ان محكمة الجنايات عادت فحكمت عليه بالحبس لسنتين فقط ولم تشدد العقوبة لضغوطات سياسية مورست عليها .
[7] - نصت المادة (52 ) من اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد :- ( تتخذ كل دولة طرف ... ما قد يلزم من تدبير ... لالزام المؤسسات المالية ... بان تتحق من هوية الزبائن .. وبان تجري فحصا دقيقا للحسابات التي يطلب فتحها او يحتفظ بها من قبل او نيابة عن ، افراد مكلفين او سبق ان كلفوا باداء وظائف عمومية هامة او افراد اسرهم او اشخاص وثيقي الصلة بهم .... )

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق