الخميس، 22 مارس 2018


عوامل انتشار
ممارسات التعذيب في العراق
يعاقب قانون العقوبات العراقي  رقم 111 لسنة 1969 المعدل في المادة ( 333 ) منه بالسجن ( اكثر من خمس سنوات - 15 سنة ) او بالحبس ( من يوم واحد -  5 سنوات ) كل موظف او مكلف بخدمة عامة عذب او امر بتعذيب متهم او شاهد او خبير لحمله على الاعتراف بجريمه او للادلاء باقوال او معلومات بشأنها ، او لكتمان امر من الامور ، او لاعطاء رأي معين بشأنها ، ويكون بحكم التعذيب استخدام القوة او التهديد .
لكن تجريم هذا الفعل لم يكن كافيا لايقاف التعذيب الذي كان ممارسة منظمة عادية في المواقف والمعتقلات العراقية قبل عام 2003 ، وعاد بطريقة حادة ووحشية ابان الحرب الطائفية عامي 2006 و2007 واستمر كممارسة روتينية منتظمة لانتزاع الاعترافات من المتهمين  خصوصا في قضايا الارهاب ، فالجهات التحقيقية عاجزة عن اثبات اية جريمة -  مهما كانت بسيطة -  على مرتكبيها الا بانتزع الاعترافات منهم  . وايسر الطرق للوصول الى ذلك هو التعذيب بانواعه المختلفة ، بضمنه اغتصاب المتهمين ذكورا او اناث او اغتصاب ذويهم او تعريتهم امامهم .
فالدافع الرئيسي وراء ممارسات التعذيب في المواقف والسجون العراقية هو انتزاع الاعترافات لاثبات الجرائم ضد المتهمين بها ، ورغم ان قسم لا يستهان به من تلك الاعترافات تصدر من المجرمين الحقيقيين ، ولكنها قد يذهب ضحيتها الكثير من الابرياء الذين يضطرون الى الاعتراف تخلصا من عذابات والالام التعذيب والضغط الذي يمارس ضدهم  .
والتعذيب - مهما كان مقداره يسيرا او كبيرا - ممارسة مرفوضة سماويا واجتماعيا وانسانيا ودوليا مهما كانت المبررات والاسباب التي تقف خلفها ، لانها تتعارض مع ابسط مبادئ حقوق الانسان . فما هي عوامل انتشارها في العراق بعد عام 2003 على الرغم من تبنيه - كدولة ديمقراطية - مبادئ حقوق الانسان ومنع التعذيب رسميا وعلى الرغم من تجريم هذا الفعل والمعاقبة عليه بالسجن لمدة قد تصل لـ ( 15 ) سنة ؟
هناك عوامل كثيرة ساعدت على انتشار التعذيب ، الا ان اهمها هي :-
1-   عدم احترام قاعدة الفصل بين جهات التحقيق وجهات  وضع اليد على المتهمين :- التي وضعتها سلطة الائتلاف المؤقتة المنحلة في القوانين العراقية منذ عام 2003 ولكنها خرقت بانشاء سجون ومواقف تابعة للجهات التحقيقية مما ادى الى ممارسة انواع التعذيب والانتهاكات ضدهم فيها .
فالقصد من هذه القاعدة هو منع وضع المتهم تحت يد المحقق او ضابط التحقيق ، لمنعه من تعذيبه لانتزاع اعتراف منه . وانما يوضع تحت يد جهة لا علاقة لها بالتحقيق ( وزارة العدل ) ولا تعرف اي شئ عن نوع التهمة الموجهة للمتهم الموقوف ، وليس من واجبها سوى الحفاظ عليه ، وتأمين احضاره ، وقت طلب الجهة التحقيقية ، لانجاز اجراء معين ، دون ان يخرج من يدها نهائيا ثم اعادته الى محل الاحتفاظ به .
ونلك هو العامل الحاسم في انتشار ممارسات التعذيب المقيتة ، ولو ضمن احترام قاعدة الفصل بين جهات التحقيق وجهات وضع اليد على المتهم لضمنا القضاء على ثلاثة ارباع ممارسات التعذيب ، شريطة ان تطبق تلك القاعدة تطبيقا صارما بان ينص على تجريم احتفاظ الجهة التحقيقية بالمتهم ولو لدقيقة واحدة .
2-   افلات الجلادين من العقاب :- فيندر جدا ان يلاحق محقق او ضابط عن قيامه بانتزاع اعتراف من متهم بالتعذيب ، بل غالبا ما يكافئون لانهم كشفوا مرتكبي الجريمة خصوصا اذا كانت الجريمة محل اهتمام الرأ اي لعام او محل اهتمام قياداتهم  . ويساعد على الافلات من االعقاب في جرائم التعذيب عوامل كثيرة منها :-
أ‌-      الصعوبة البالغة في الحصول على الادلة ضد الجلادين لان التعذيب يتم عادة والضحايا معصوبي الاعين لمنعهم من التعرف على الجلادين او يقوم الجلادون بارتداء قناع يمنع من التعرف عليهم ، ويجري التعذيب في غرف مغلقة غير خاضعة لاي رقابة ، بمعزل عن العالم الخارجي ، وقد يجري التعذيب بطرق وحشية وخسيسة لا تترك اثرا على جسم الضحية ، او ان يجري بطرق تترك اثرا على جسده الا ان الاثار تختفي بعد فترة حينما لا يعرض الضحية سريعا على الاطباء لثبيت اثار التعذيب ، وقد يختلط الامر حينما تدعي الجهات التحقيقية بان المتهم هو من احدث اثار التعذيب بنفسه تهربا من اعترافه بالجريمة . وقد تمارس ضغوط وتهديدات او تأثيرات معينة ضد الجهات الطبية لاستصدار تقارير لا تراعي الحقيقية وتميل باتجاه انقاذ الجلادين على حساب الحقيقة .
ب- تكاسل اوعدم فعالية اوعدم جدية الجهات المعينة بملاحقة جرائم التعذيب كهيئة النزاهة وجهاز الادعاء العام ،  بل تواطئها معها احيانا ، او تغاضيها عن تلك الجرائم تجنبا للاصطدام بالجهات التي ارتكبت تلك الممارسات ، خصوصا اذا كانت مدعومة من اعلى السلطة التنفيذية او مرتبطة بها .
ج- منع محامي المتهمين او ذويهم من الاتصال والتواصل معهم لفترات طويلة ، بل احيانا منعهم من معرفة اماكن احتجازهم ، مما يسهل ممارسة كل انواع الضغط والتعذيب ضدهم ثم اخفاء اثار التعذيب باندمال جروحهم ، لعدم وجود من ينجدهم او يطالب باجراء الفصحوصات الطبية على اجسادهم .
د- فساد القوانين :- مثل نص المادة ( 111 ) من قانون اصول محاكمات قوى الامن الداخلي التي منعت اتخاذ اي اجراءات قانونية ضد ( رجل الشرطة) مراتب وضباط ، الا بأذن من وزير الداخلية ، وقد يمتنع الوزير عن اعطاء الاذن باتخاذ الاجراءات القانونية ضد مرتكبي ممارسات التعذيب ، مما يساعد على افلاتهم من العقاب وانتشار ممارسات التعذيب بل تفاقم ممارستها .  
د- تورط الجهات التي تحقق في ( تهم تعذيب المتهمين ) ذاتها في التعذيب او ايمانها بضرورته  :- فكيف يتصور ان نخرج من تحقيق في ( تهمة تعذيب متهم ) بنتيجة ايجابية اذا اودع التحقيق الى ضابط  هو زميل الضابط المتهم كما انه هو نفسه يمارس التعذيب لانتزاع اعترافات المتهمين ، او اذا كان المحقق المعني او قاضي التحقيق المعني يعتقد بضروة التعذيب لانتزاع الاعترافات ، والا فلن تثبت لدينا جريمة واحدة ضد مرتكبيها لعجز الجهات التحقيقية عن جمع ادلة معتبرة ضد الجناة . لذلك تجد ان قضايا التعذيب التي تفتح ضد الضباط ( المحققين ) - رغم قلتها قياسا الى ممارسات التعذيب المنتشرة - فانها لا تتابع بجدية كافية ، او يجري التحقيق فيها بطريقة منحرفة باتجاه انقاذ الضابط المتورط بالتعذيب  .
3-   تبني القضاء الاخذ بالاعترافات المنتزعة بالاكراه والتعذيب :- فاخذ المحاكم العراقية بالاعترافات على علاتها واستنادها اليها في اصدار الاحكام بادانة المتهمين بالجرائم ، بلا بحث دقيق في كونها منتزعة بالاكراه من عدمه ، شجع على تفاقم ظاهرة التعذيب لانتزاع الاعترافات ، مادام الجلاد آمن من ملاحقته عن جريمة التعذيب بل انه سيكافأ عن اكتشافه فاعلي الجريمة ، وما دام مطمئنا بان القضاء سيأخذ بالادلة التي رتبها له من خلال تعذيب المتهم واكراهه على الاعتراف . وهذه هو عين ما شخصه نائب الممثل الخاص للامم المتحدة في العراق جورج بوستن في كلمته الرائعة نهاية عام 2011 اذ يقول :- ( ... وفي حين ينص القانون العراقي على عدم قبول القضاة  للاعترافات التي يزعم انها انتزعت تحت الاكراه او نتيجة سوء المعاملة او التعذيب ، فأن رصد اجراءات المحكمة من الامم المتحدة ، يشير الى ان القضاة يقبلون مثل تلك الاعترافات ، بشكل روتيني دون دراسة ، وللاسف تسهم هذه العوامل في ايجاد بيئة تسمح بإساءة معاملة المحتجزين وتعذيبهم ... ) ([1]).
4-   تشجيع وتبني وحماية السلطة التنفيذية للجلادين :- لاعتقادها بانهم اداة حمايتها ، والجهاز القادر على كشف المتورطين بالجرائم خصوصا الجرائم السياسية التي تمس امن النظام السياسي وتشكل خطرا عليه ، ولانها ( اي السلطة التنفيذية ) عاجزة دونهم عن حماية نفسها او تحقيق اي منجز في مجال الامن ، ولايمان معظم القيادات الامنية بعدم امكانية كشف الجرائم دون استعمال الضغط والتعذيب لانتزاع الاعترافات ، لعجز الاجهزة التحقيقية عن كشف اية جريمة بلا اعترافات ولا اعترافات – الا نادرا جدا - بلا ضغط وتعذيب . 
ان ايقاف ممارسات التعذيب المنشرة في العراق امر يسير فعليا لو توفرت الارادة السياسية  الحقيقية لايقافه ، لكن ليس الحل بتشكيل لجنة حكماء لتحري حقيقة وجود اعتداءات او تعذيب ، فذلك امر يعرفه الكل ، ولايحتاج الا الى حكماء ولا الى لجنة حكماء ، ومن ينكر وجود التعذيب  فانما يحاول تقليد النعامة حينما تدس رأسها في التراب ، انما الحل في ايقاف عوامل انتشار التعذيب التي ذكرناها اعلاه ، وما اسهل ذلك .




[1] - نشرت الكلمة في جريدة المدى – العدد 2681 – في 19 / 12 / 2012 صفحة اراء وافكار .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق