تعليق على قرار :- (
الحبس لقاذف الفيسبوك )
اولا :- نص القرار :-
قضت محكمة استئناف بغداد –
الرصافة بصفتها التمييزية بالعدد 989 / جزاء / 2014 في 29 / 12 / 2014 :- ( ان
الادلة المتحصلة في وقائع الدعوى تكفي للادانة على وفق احكام المادة ( 433 ) عقوبات
والمتمثلة بثبوت قيام المدان بنشر عبارات تشكل قذفا بحق المميزة ( المشتكية ) وذلك
باسناده وقائع معينة لها لو صحت من شأنها ان توجب العقاب والتحقير في وسطها المهني
والاجتماعي لذلك قرر تصديق حكم الادانة ، الا ان العقوبة المفروضة وجد انها لا
تتناسب والفعل المرتكب لان نشر عبارات القذف عبر وسائل الاعلام يعد ظرفا مشددا على
وفق احكام المادة ( 433 / 1 ) عقوبات والنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي (
الفيسبوك ) يعد من وسائل الاعلام لانه متاح للجميع ويصل الى الجميع ويوفر عنصر
العلانية في الفعل .. ) .
ثانيا :- مبادئ القرار :-
ان القرار يتضمن ثلاثة
مبادئ خطيرة هي :-
1-
ان القذف في مواقع التواصل
الاجتماعي جريمة معاقب عليها .
2-
ان الفيسبوك من وسائل
الاعلام لانه متاح للجميع ويصل الجميع ويوفر العلانية .
3- ان القذف في الفيسبوك ظرفا مشددا ويجب الحكم بالحبس في جرائم النشر فيه .
ثالثا :- تحليل المبادئ
:-
المبدأ الاول :- تجريم القذف في مواقع التواصل الاجتماعي :-
( القذف هو اسناد واقعة
الى الغير باحد طرق العلانية من شأنها لو صحت ان توجب عقاب من اسندت اليه او
احتقاره عند اهل وطنه ، ويعاقب من قذف غيره بالحبس وبالغرامة و باحدى هاتين
العقوبتين ، واذا وقع القذف بطريق النشر في الصحف او المطبوعات او باحدى طرق
الاعلام الاخرى عد ظرفا مشددا ) نص المادة ( 433/ 1 ) من قانون العقوبات رقم 111
لسنة 1969 .
ومن تعريف النص يظهر جليا
بان اي اقوال او اعمال او حركات او صياح او اشارات او كتابات او رسوم او صور او
افلام ونحوها تحقق جريمة القذف اذا نهض شرط واحد هو اسند واقعة للمجنى عليه ( توجب
عقابه او احتقاره عند اهل وطنه ) ولا فرق ان تكون الواقعة صحيحة ام غير صحيحة الا
اذا كان المجنى عليه موظفا او مكلفا بخدمة عامة وكان القذف متعلقا بوظيفته وتمكن
القاذف من اثبات الواقعة .
واذا ضيقنا معنى شرط ( ان
تكون الواقعة مما توجب معاقبة المجتى عليه لو صحت ) فان الفعل لا يكون قذفا الا
اذا كانت الواقعة مما توجب معاقبته جزائيا ، لكننا ان وسعنا معنى الشرط فيكون
الفعل قذفا ولو كانت الواقعة مما توجب المعاقبة انضباطيا ( اداريا ) ، ويمكن ان
نتوسع فنجعل الفعل قذفا لمجرد ان الواقعة تكفي لمعاقبته اخلاقيا ، وهذا هو عيب
النص الكبير ، لان نص مطاط قابل للتوسع فيه لدرجات يمكنها عد كل فعل قذفا مهما
كانت بساطته ، او عد النقد ، والتقييم والاعتراض كله نوع من انواع القذف .
فيبدو واضحا مقدار السعة
في تعريف جريمة القذف مما يجعلها من الجرائم التي ينتفى فيها شرط التحديد التدقيق
ويجعلها خرق كبير لقاعدة لا جريمة لا عقوبة الا بنص ، لان تلك القاعدة تقضي ان
يحدد القانون الفعل تحديد دقيقا لا لبس فيه ولا توسيع ، فتتبدى خطورة تجريم القذف
على حرية التعبير وحرية الاعلام من جهة عدم تحديدها تحديد دقيقا وخضوعها لاجتهادات
وامزحة القضاء ، وقد يؤدي ذلك الى مصادرة
حق الناس في حرية التعبير وحرية الاعلام خصوصا عندما يواجهه القضاء تحديات وضغوط كالتي يمر
بها القضاء في العراق.
ويتوهم الكثيرون بان
تجريم القذف ضروري لان الانسان يجب ان يلتزم بحدود اخلاقية وادبية معينة حين
التعامل مع الاخرين ، لكنه يسهون عن مخاطر ذلك التجريم حينما يختلط ما يعد قذفا بما
لا يعد قذفا حين ملاحقة جريمة القذف ، عن طريق ادخال كل ما يزعج المسؤولين واهل
السلطة في مفهوم جريمة القذف ولو كان اعتراضا او انتقادا او تقييما . كما يجعل فضح
ممارسات الفساد وانتهاكات حقوق الانسان جرائم ، فان ما ورد في تقارير هيومن راتيس
ووج والعفو الدولية يعد قذفا من منظور النص العقابي العراقي لو اشار الى اسماء
معينة .
فلو قلت ان وزير الدفاع
او وزير الداخلية يمارس اقصاء طائفي ضد العاملين فيها ، او ان رئيس الادعاء نائم
ولا يقوم بواجبه او ان البرلماني او المسؤول الفلاني استغل وظيفته فعين اقاربه ،
او ان القائد العسكري الفلاني ارتكب الخيانة العظمى ، او ان رئيس الوزراء حنث
باليمين الدستورية ، او ان القاضي فلان ظلمني ، او انه قاض لا يفهم او كفائته
ضعيفة، او ان الموظف فلان يتحرش بالنساء ، او انه يتكبر على المواطنين ويعاملهم
بعدم احترام، اوان وزير التربية دمر التربية لانه تبنى منهاج تربوية طائفية ، او
قلت ان رئيس الوزراء فاشل ... فان كلها تحقق اركان جريمة القذف – فيما اذا توسع
القضاء في تفسيره - لانك اسندت لهم واقعة توجب عقاب الشخص المعني او احتقاره ، رغم ان العبارة هي تقييم موضوعي او نقد او رأي
في اداءه من وجهة نظر القائل بغض النظر عن صحتها او مبرراتها .
ان انتقادات اهل الفيس
بوك لامين بغداد ( نعيم عبعوب ) تصلح ان تعد قذف او سب وشتم ، وبالتالي قد ندخل
كلنا السجن بسبب ذلك وفقا لاجتهاد المحكمة الموقرة .
ويمكن ان يعد قولك بان
السياسي الفلاني لديه مليار دولار في سويسرا قذفا لانك تلمح بانه كسب غير مشروع ،
او الرجل ( حاشاه ) فاسدا .
لذا ومن اجل الموازنة بين
حماية حرية التعبير والاعلام ومنع استعمال تجريم القذف والسب كوسيلة لمصادرتها ،
من جهة ، ومن اجل ايجاد وسيلة تمنع القذف والسب دونما ان تؤثر على حريات الناس فأن
الامم المتحضرة لم تجرم القذف والسب لكنها منحت المضرور وسيلتين هما :-
1-
حق الرد.. وهو حق الزامي
يوجب نشر رد المضرور على ما وجه له من تهم او وقائع .
2-
اعطت القوانين للمتضرر حق
المطالبة بالتعويض وفقا للمسؤولية التقصرية ...
وتلك هي اسلم الحلول
للدول التي تعاني من ضعف الديمقراطية فيها بسبب التحديات الكبرى التي تتعرض لها
الحريات في تلك البلدان .
وهذا هو سبب اعتماد
المعايير الدولية الاخذ باحد الحلول التالية فيما يتعلق بتجريم القذف والسب :-
1-
منع تجريم القذف والسب
نهائيا ، والاكتفاء عنها بالمسؤولية التقصيرية فمن تعرض للقذف او السب فبامكانه
مطالبة الفاعل بالتعويض فقط . وهذا هو الحل الاكثر مقبولية .
2-
تجريم القذف والسب لكن
بشرطين :- أ- ان يكون التجريم بنصوص محددة وقاطعة تضمن عدم الاخلال بحريات الاعلام
والتعبير ، وعدم مصادرة حقوق الناس في النقد وتقييم الاداء والاعتراض ب- ان تمنع
نهائيا العقوبات امقيدة للحرية ( الحبس او السجن ) قطعيا في جرائم النشر مهما كانت
المبررات والاكتفاء بعقوبة الغرامة فقط .
لذا فأن النص العراقي
الحالي يخالف المعايير الدولية لان يجرم القذف والسب ويفرض بهما عقوبة الحبس ،
وفوق كل ذلك يجعل النشر ظرفا مشددا ، اي انه يأخذ بعكس ما تتطلبه المعايير الدولية
تماما .
والمعروف بان اهم واجبات
القضاء هي حماية الحريات والذود عنها ، ويكون ذلك عن طريق تفسير النصوص بما يتوافق
مع المعايير الدولية من خلال التضييق في تفسير النص المخالف للقواعد الدولية وحصره
في نطاق ضيق جدا ، الا ان محكمة الاستئناف الموقرة في حكمها المعلق عليه اتجهت عكس
ذلك تماما ، فتوسعت في تفسير معنى وسائل الاعلام وادخلت الفيس بوك فيه ، واوجبت
تشديد العقوبة اي زيادتها للحبس ، وهو امر يحول القضاء من حام للحريات الى شريك في
مصادرتها .
المبدأ الثاني :- ان الفيس بوك من وسائل الاعلام :-
وبررت المحكمة اجتهادها
بجعل الفيس بوك من وسائل الاعلام بالقول (لانه متاح للجميع ، ويصل الى الجميع ،
ويوفر عنصر العلانية في الفعل ) .
ولا ادري من اين جاءت
المحكمة الموقرة بتلك المعايير للتفريق بين ما يعد وسائل اعلام وما لا يعد كذلك ،
فلا يوجد نص ولا فقه يقول بذلك ، كما ان نظرة بسيطة لتلك الاسباب يهدمها كلها لانه
غير صحيحة ولا تطابق الواقع او تخالف قواعد التفسير الصحيح .
فالاسباب ثلاث هي :-
1-
انه متاح للجميع :- ويبدو
ان المحكمة خلطت بين اتاحة الفيس بوك للجميع وبين اتاحة ما ينشر في الفيس بوك
للجميع ، فقد يقبل القول بان الفيس بوك متاح للجميع رغم انه متاح فقط لمن لديه حساب على الفيس بوك ، الا ان ما ينشر في الفيس بوك ( وهو الذي يصلح
ان يكون جريمة قذف ) لا يمكن ان يكون متاحا للجميع ، لان عدد من يتاح لهم منشور
الفيس بوك يتحدد في ضوء امرين :-
أ-
رغبة ناشره ، فقد يحصره
بالاصدقاء او العائلة واحيانا بشخص واحد ، واحيانا يخفيه فلا يراه احد غيره ،
ب-
ويتحدد عدد المتاح لهم
المنشور في ضوء عدد الاصدقاء او المتابعين
للصفحة التي نشر فيها المنشور.
وبالتالي قد يكون عدد
المتاح لهم المنشور لا يتعدى العشرات او المئات ، وقليل من الصفحات في الفيس بوك
قد يصل عدد من يتاح لهم منشوراتها للالاف . لذا فأن ما ينشر في الفيس بوك متاح
لعدد معين ، وليس متاحا لللجميع .
2-
يصل للجميع :- وهذا وصف
لا ينطبق لا على الفيس بوك ولا على غالبية وسائل الاعلام ، لان وسائل الاعلام عادة
تتاح للناس او تتاح لبعضهم ، ولا تصل اليهم ، فلا يصلني شي من قناة البغدادية مالم
ادير تلفازي عليها واجلس لمشاهدتها ، ولا يصلني شئ من الفيس بوك ما لم ادخل فيه
واتصفحه اذا كنت ممن اتيح لهم مشاهدة المنشور ، لذلك فأن القول بان ما ينشر في
الفيس بوك يصل للجميع هو وهم او خدعة لا اساس لها في الواقع .
3-
انه يوفر عنصر العلانية
:- و( العلانية ) مفهوم لم يعرفه قانون العقوبات ولكنه اكتفى بذكر امثلة لـ (
وسائل العلانية ) في المادة ( 19 / 3 ) من قانون العقوبات ، وهي في مجملها تتحدث
عن ( اماكن ) عامة او مطروقة ، وتشترط
الرؤية او السماع او العرض في ( الاماكن ) ، وهي تعني ( اماكن حقيقية ) وليس امكان
افتراضية كالفيس بوك ، والا فأن التوسيع في معنى الاماكن وادخال الاماكن
الافتراضية فيه ، هو خروج عن قاعدة لا جريمة ولا عقوبة الا بنص ، وقياس في التجريم
وتوسع في تفسير النصوص العقابية بما لا تقبله بديهيات القانون وابسط قواعد التفسير
.
لذلك فأن اسباب محكمة
استئناف الرصافة الموقرة لعد الفيس بوك من وسائل الاعلام غير مقبولة لانها تستند
الى ما لا يتطابق مع حقيقة الفيس بوك وما لا يتفق مع اصول التفسير الصحيح للقوانين
العقابية وبعضها وهم كامل .
المبدأ الثالث :- ان القذف في الفيس بوك ظرفا مشددا ويجب انزل عقوبة الحبس
عليه :-
وهذا كان نتيجة لتورط
المحكمة في عد الفيس بوك وسيلة اعلامية ، حينما توسعت توسعا مبالغ فيه في تحديد
معنى وسائل الاعلام على اسس ومعايير كيفية لا اساس لها من القانون ولا الفقه ولا
حتى الواقع ، وبطريقة خالفت فيها التوجهات القضائية العالمية التي رفضت عد الفيس
بوك من وسائل الاعلام ،وفق اخر اجتهادات محكمة النقض الفرنسية.
ورتب عد الفيس بوك وسيلة
اعلامية ان اوجبت محكمة الاستئناف تشديد العقوبة ، والتشديد سوف يؤدي الى انزال
عقوبة الحبس على جريمة القذف في الفيس بوك – بدلا من عقوبة الغرامة - وهذا سوف
يتقاطع مع المبدأ الدولي القائل بعدم جواز
الحكم بالحبس في جرائم النشر .
خامسا :- الاثار السلبية
للقرار على الحق في حرية التعبير والاعلام :-
ان قرار المحكمة الموقرة
المبحوث فيه اضافة الى انه يجانب طرق التفسير الصحيحة للنصوص العقابية ، ويتعمد
التشدد في تفسيرها باتجاه ابعادها عن المعايير الدولية ، ويؤدي الى توريط القضاء
في اجتهادات تجانب الالتزامات الدستورية التي تضمن حرية التعبير والاعلام ، ويجعله
شريكا في مصادرة الحريات ، فانه سيكون له اثر كبير في عزوف الناشطين بل وكل
الموطنين عن ممارسة حقوقهم في الانتقاد وتقييم اداء مؤسسات الدولة والمسؤولين فيها
ويمنعهم من التعبير عن رأيهم بشأن اداء هؤلاء ومدى قيامهم بواجبات وظيفتهم ، كما
انه سيمنع من تداول وقائع الفساد والسرقات التي تمارس في الدولة ، وافترض ان
المحكمة الموقرة غير متورطة في التآمر لحماية الفساد والمفسدين من الحملة الكبرى
التي تشن عليهم حاليا في مواقع التواصل الاجتماعي ، لان قراراها يتعارض صراحة مع
نص المادة ( 13 ) من اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد التي صادق عليها العراق
بالقانون رقم ( 35 ) لسنة 2007 التي توجب على الدول :- ( احترام وتعزيز وحماية
حرية التماس المعلومات المتعلقة بالفساد وتلقيها ونشرها وتعميمها ) ولا يجوز فرض
قيود على ذلك الا بنص صريح وقاطع في القانون ولا يمكن للقضاء وضع تلك القيود عن
طريق التوسع في تجريم افعال الناشطين ضد الفساد تحت مسمى القذف او السب او الاهانة
كما فعلت محكمة النشر والاعلام حينما بالغت في تفسير كلمة ( اهان ) في المادة (
229 ) من قانون العقوبات فظلت تخبط فيها خبط عشواء فانتهكت الدستور وصادرت الحريات
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق